يحلمون بغزة وقد رحل عنها الاحتلال وعادت لحكامها وتدفقت عليها أموال عربية وأوروبية لإعمارها، أو عادت ومعها الضفة الغربية ليرفعا معا علم فلسطين، الدولة المستقلة المناضلة لتحرير فلسطين التاريخية ذات يوم قريب أو بعيد. يحلم بها غيرهم وقد أفرغت من كل سكانها وقامت فيها مستوطنات ومدن بأسماء عبرية يسكنها يهود جاؤوا من كل الأصقاع هاربين من أحكام أو متآمرين على بلاد ولدوا فيها أو مغامرين ومتطرفين وحالمين. آخرون، وهم كثر، يحلمون بعودة كل شيء إلى ما كان عليه قبل السابع من أكتوبر. هؤلاء غارقون في الحلم أو في الوهم بأن التاريخ معهم والمستقبل قدر مكتوب وواجبهم حماية الوضع القائم، أي حماية الاستقرار والرضا بما فرض عليهم على أمل أن يأتي الأحسن متدرجا بهدوء وسلام.
***
كل هؤلاء عيونهم على “اليوم التالي”. أكثرهم متجاهل حقيقة أن اليوم السابق على السابع من أكتوبر ما يزال حيا ومتشبثا بما تحقق أو بما يسعى لتحقيقه. نعم، خلخل الطوفان في مسيرته ثوابت هامة مثل قوة الردع الصهيونية سواء وجدت على أرض فلسطين أو في مواقع الهيمنة كما في واشنطن وباريس وبرلين ولندن، أو في داخل دول عربية وغير عربية في منطقة الشرق الأوسط. كشف أيضا درجة انحدار مكانة وقدرات قوى دولية وإقليمية، ومن هذه الأخيرة إسرائيل نفسها كقوة إقليمية وأمريكا كقوة دولية. كشف في المقابل عن درجة نهوض سياسات وأدوار قوى دولية وإقليمية أخرى، ومن هذه القوى الصين وروسيا وإيران وقوى المقاومة الوطنية المتجددة دائما. عيون كل هؤلاء وعقولهم على اليوم التالي وليس على اليوم السابق الذي لم يغادر والأدلة كثيرة على أنه لم يغادر تماما، من هذه الأدلة:
أولا: يستمر التصعيد الإسرائيلي في الضفة الغربية بنفس منوال اليوم السابق للسابع من أكتوبر. لم تتوقف السلطة الإسرائيلية وعصابات المستوطنين عن شن حملات الدهم للبيوت في مختلف مدن ومخيمات الضفة. بمعنى آخر استمرت إسرائيل تقتل الفلسطينيين وفي الوقت نفسه استمرت، تدري أو لا تدري، تدفع الشباب الفلسطيني نحو الاستعداد ليوم الثأر والتحرير. إسرائيل مستمرة في بناء المستوطنات على أراضٍ فلسطينية ومستمرة في حرق المزارع وأشجار الزيتون وقتل الأطفال.
ثانيا: إسرائيل اتجهت خلال السنوات الأخيرة نحو تطرف يميني أشد وجديد في أساليبه وأهدافه. اليوم، كما اليوم السابق على حرب غزة، إسرائيل تحكمها سلطة صهيونية إرهابية الأفكار والوسائل، أشد خطرا على السلم الإقليمي والعالمي من داعش وإخوتها. تحمي إرهاب المستوطنين وتخطط بعلانية وبالجهر الممكن لعمليات إبادة للفلسطينيين أو تهجيرهم.
ثالثا: تقوم في رام الله حتى ساعة كتابة هذه السطور سلطة فلسطينية تزعم أنها تحكم باسم منظمة التحرير الفلسطينية وهي بالفعل لا تحكم. المحتل الصهيوني يحكم والسلطة الفلسطينية متهمة بأنها تؤمن ظهر المحتل ولا تقف عائقا أمام حملات المستوطنين وغارات سلطة الاحتلال. اليوم، كما اليوم السابق على حرب غزة، الضفة الغربية تغلي بالغضب المزدوج، غضب على المحتل وغضب على وكيله الفلسطيني. بفضل أوسلو وبالرغم منها صارت السلطة في نظر العالم الخارجي وكيلا لدولة الاحتلال. بقيت في رام الله مجرد رمز لا يضر المحتل وبالتأكيد وحتى الآن غير مفيد لفلسطين.
رابعا: تصادف الطوفان مع استعدادات تجري في أمريكا لانتخابات رئاسية في العام التالي. انتخابات أمريكا حدث عظيم لاختبار النوايا وتوزيع الخيرات وسوق رائجة لبيع النفوس والأصوات. الخطط لها محكمة ومدروسة بعناية فائقة من جانب مراكز القوة الحقيقية في الدولة. لذلك غير مستحبة بل ومكروهة بشدة المفاجآت والأحداث غير المتوقعة، وهذه إن وقعت فالتعامل معها يكون بقسوة وعنف لازمين. كانت أحداث السابع من أكتوبر وما تلاها من أحداث مفاجآت غير مستحبة بل ومكروهة. يبقى العام الجاري حتى قرب نهايته عام انتخابات وفي الوقت نفسه عام التعامل مع الطوفان وتداعياته. يبقى أيضا درسا في تاريخ العقود الأخيرة من حياة إمبراطورية عظمي.
خامسا: عاشت حماس في غزة تدير وتحكم في غياب تعاطف، ولا نقول حماية، معظم دول إقليم الجوار العربي. كتائبها سجلت مقاومة مشهودة في حرب طالت ضد قوة شهدت لها دول الغرب ودعايتها بالموقع المتفوق بين قوى الحرب والغزو العالمية. فرضت بمقاومتها وحسن تخطيطها؛ احترام فريق هام من خصومها في المنطقة، أجبرته على الإشادة بإنجازاتها وصمودها إرضاء لمشاهديها ليس فقط في الوطن العربي وإنما في كافة أنحاء العالم. أخرجت بنفسها الطويل الطلاب في الجامعات الأمريكية أحد أهم حصون الصهيونية العالمية ومصنع عقولها ومعمل تفوقها التكنولوجي، أخرجتهم في عام انتخابات من قاعات الدرس إلى ساحات الاحتجاج والمساندة، ثم إلى ما هو أهم، إلى شاشات التلفيزيون التي تحتكرها لمصلحتها مؤسسات الصهيونية العالمية المهيمنة على مصارف وشركات سلاح عملاقة ومراكز للعصف الفكري. لا أتصور أن إسرائيل وقوى الصهيونية سوف تسكت على حلقات مسلسل انحسار قوتها أو على الشروخ التي صارت تهدد دروعها العالمية.
سادسا: لا تزال آمال إسرائيل والصهيونية العالمية معلقة بما بدأت الولايات المتحدة ودول في أوروبا وبخاصة ألمانيا من إجراءات لشل حركة حماس وتعزيز سياسات الفصل والوقيعة بينها وبين أكثرية الدول العربية وكذلك بين هذه الدول وإيران. من ناحية أخرى أدرك الغرب حقيقة أن حماس ظاهرة متكررة في تاريخ النضال ضد الاستعمار. القضاء عليها غير ممكن طالما بقيت الحاجة إلى حركة مقاومة. من ناحية ثالثة، اتضح أن الموقف الذي اتخذته دولة اتحاد جنوب أفريقيا في شأن التوجه بقضية غزة لمحكمة العدل الدولية لم يكن سوى قمة جبل جليد تتحرك تحته بوادر موجة من موجات ثورة أفريقية عارمة نشبت بشائرها في أوائل نفس العام في منطقة الساحل، هدفها الإطاحة بهيمنة الغرب على القارة.
***
تجتمع أمامنا الآن عناصر تشترك بوجودها وحركتها في صنع وصياغة فصل جديد من فصول الغزوة الصهيونية ليس فقط في فلسطين وغيرها من أوطان العرب وجيرانهم ولكن أيضا في العالم بأسره. ما حدث حتى الآن قد يبدو لمراقب أو آخر تغيرا طارئا في ظروف استثنائية قابلا للتصحيح عند زوالها. وقد يبدو لمحلل متريث تحولا جوهريا ليس فقط في نمط سلوك دولة عظمى ودول كبرى في قارة شاخت وفي قواعد وأساليب عمل الصهيونية باعتبارها شبكة هيمنة عالمية مترامية الأطراف والأهداف، ولكن أيضا وبشكل جذري في نمط توزيع القوة وتوازناتها في إقليم الشرق الأوسط.
الصدام متوقع بين واقع ينحسر بجلبة شديدة وكلفة عالية وبين مستقبل زاحف بعناصر تعكس تحولات جذرية في الهياكل والسياسات. مستقبل يهدد قلاعا كان الظن أنها راسخة الأسس وقوية المعتقد.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق