مارست السعادة في كل مرحلة من مراحل عمري، ولكني مارستها مختلفة وأنا أكبر الجماعة سنا، وبخاصة حين اجتمع السن بمكانة رأس العائلة. حدث هذا أول مرة قبل أعوام قليلة عندما رتبنا، أنا والعائلة، قضاء وقت نوعي فاخترنا بيتا في الجونة أجرناه لمدة أربعة أيام. هناك، وبصفتي صاحب الدعوة اخترت أن ألعب أدوار ولي الأمر والراعي والمراقب والمستمتع بالطقس الرائع في آن واحدة.
هذه المرة قررت أن ألعب دور الرجل المسن، الوالد لثلاثة منهم والجد للباقين. لست راعيا ولا ناصحا ولا وليا لأمر أحد ولا رقيبا على أحد. اخترت أن أكون فقط من أنا، الرجل المسن في جماعة اتفقت أن تجتمع في شكل شجرة عائلة. غابت عن الشجرة شريكة ساهمت في غرس بذرتها، غابت مخلفة لشريكها مهمة رعاية أغصان ثلاثة نبتت ونمت لكل غصن من أغصانها الثلاثة فروع يافعة.
بقيت ساكنا كجذع شجرة عتيق حتى اجتمعت الأغصان بفروعها. لم أتحدث إلا قليلا. اخترت أن أنصت. لا أتنصت أو أبدو متصنتا على ما يدور من أحاديث جانبية. أشارك أحيانا بهز الرأس كما يفعل الجد حين يسعى ليكون حاضرا. أشارك أيضا بابتسامات محسوبة. إن تدخلت بتعليق فبصوت مسموع ونبرات هادئة. مداخلات كثيرة وقعت لم تصل إلى سمعي. في مرة أو مرتين اعتذرت باحتمال أن يكون السمع عندي انحسر. صاحب اعتذاري نظرات خجولة ولكن متبوعة باعتراضات سريعة من جانب الحاضرين من غصون الشجرة وفروعها.
***
مارست خلال هذا الأسبوع عادة التأمل أكثر مما أفعل في مناسبات اجتماعية عادية. التأمل متعة لا تعادلها متعة أخرى وبخاصة تلك التي أمارسها في اجتماعات الغرباء، كانوا من الجيران أو ضيوف أولادي والأقرباء البعيدين. إن تسمع ما يدور حولك من أحاديث في السياسة وبخاصة من أشخاص تثق في أنهم على دراية ببعض حقائق الأمور أو من تعتقد أنهم من ناقلي آراء الغير لا أكثر. تعلمت وتعلمت، حتى صرت خبيرا في التمييز بين صاحب الرأي وناقله، وبين الحريص على أن يعرف رأي الآخرين في الرأي الذي أدلى به منقولا عن غيره لينقله حرفيا كما سمعه أو مغلفا برواية أو حدوتة مسلية. كثيرا ما كشفت نقاشات الرأي السياسي عن طبائع وأخلاق لا تكشف عنها نقاشات في الرأي الاقتصادي والرأي الرياضي والرأي في أطباق طبخات مبتكرة أو معروفة.
التأمل ليس عدم اهتمام أو لا مبالاة. ممارسة التأمل خلال نقاش حام أو خطاب ناري طويل إنما هو حق مشروع وأصيل لتحصين العقل ضد التشويش أو إبعاده عن كل ما يمكن أن يؤثر على جهود إعداد مداخلة في موضوع بعيد الصلة عما يدور في لحظة بعينها. التأمل أستخدمه عادة لاستعادة نقاء الفكر أو حماية ما كنت قد جمعته وخزنته من خلاصات وإبداعات.
أما ممارسة عدم الاهتمام واللامبالاة فيكشفها اللجوء الكثير إلى الهاتف أو الالتصاق به أو الانشغال بالبحث عن قناة تلفزيونية مهتمة بإذاعة نشرات الأخبار، هي أيضا الممارسة التي تعلن بصمت نهاية اجتماع أو مداخلة تجاوزت الحد المناسب في الوقت أو نقاش تدهور مهددا سلام العلاقات بين الحاضرين والحاضرات.
***
أظن أنني لم ألجأ إلا للقليل جدا من هذه الملاحظات خلال اجتماعات العائلة. تركت للجميع حرية الكلام والتصرف مقللا قدر الإمكان من التدخل. وبالفعل كانوا جميعا أمثلة تحتذى في الالتزام بآداب اللقاءات والاجتماعات، حتى الصغار لم يعل لهم صوت، باستثناء الأصغر بينهم التي لم تهدأ لحظة واحدة، الوحيدة التي في واقع الحال لم تراع وجود رجل مسن هو أيضا الجد الأكبر لكل الصغار وكلهم احترموا القواعد غير المعلنة لهذا النوع من الاجتماعات.
***
الغريب في الأمر وفي التجربة أن أحدا لم يلقن الشباب والصغار تقاليد التعامل مع عضو مسن في العائلة. أذكر أياما كان المسنون في كل اجتماع عائلي يشكلون أغلبية بين الحاضرين أو نسبة كبيرة. رحت أفكر ومن حولي في شجرة عائلتي من تقدموا في السن ولكن حافظوا على صفة “الشباب الدائم”.
لقد تدخل العلم وفنون الطب لإطالة أمد كل مرحلة من مراحل العمر، وازدادت حاجة كبار السن إلى وقت إضافي لاستكمال تحقيق أهداف استجدت استجابة لطموحات تتجدد.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق