شاب أحترم شبابه وذكاءه وانتظر له مستقبلا زاهرا دعاني لزيارته في مدينة فلورنسا، جوهرة مقاطعة توسكانا الإيطالية. دعاني مرة ثم أخرى وثالثة وقبل توجيه الدعوة الرابعة سألني عن سبب أو أسباب ترددي وأنا المعروف عنه عشقه لإيطاليا وبخاصة هذه المقاطعة الأشهر بشمسها وخضرتها ورموزها التاريخية. لم أجبه على الفور لعلمي أن بينه وبين فلورنسا عشقا لا يقل صدقا وعمقا عن الشعور الذي تبادلناه يوما، فلورنسا وأنا. هل أقول له إنني زرتها فقابلتني بدون رونقها المعتاد. يومها لم تكن فلورنسا ولا كانت روما عند مستوى ذكرياتي فيهما وشوقي لهما. غضبت وجمعت أمتعتي ورحلت متوعدا، لن أعود.
عدت إلى تونس بعد غياب. عدت متطلعا لقضاء ساعة من الزمن على شاطئ كان شاهدا قبل عشرين سنة على حوارات ثرية وجلسات ممتعة. كنا، النادل والضيوف من باريس وبيروت والمنزه والقاهرة، نقضي الساعات نناقش ونلهو ونتنبأ ثم نختلف على سداد فاتورة اليوم. دقائق مرت وأنا جالس على مقعد وثير في فندق فاخر أقيم على أرض كان يحتلها مطعم الشاطئ مقر حواراتنا وجلساتنا، نهضت بعدها مستأذنا مضيفي أن نغادر للعودة من سكة غير تلك التي سلكناها ذهابا. مررنا في سكة الإياب بأحياء أخرى سكنت في أحدها، وأشترى حاجتي من حلقة السمك في حي آخر، وأقص الشعر عند حلاق في حي رابع ثم أتمشى مرتديا “الشورت” وممسكا بأذني “قفة” الخضراوات والفاكهة أصعد بها الشارع نحو بيتي عند الربوة، بيت يطل من ناحية على كنيسة وفندق “الملكة ديدون” ومن شباك غرفة نومي على صفي نخيل ينتهيان في البحر. بقيت الكنيسة وتغيرت هندسة الفندق واختفت “الملكة” من عنوانه ولم أتعرف على بيتي.
إلى شيلي رجعت بعد ثلاثين عاما. نزلنا بفندق كبير. اجتمعنا على مائدة العشاء ولم أطلب لنفسي غير صحن الشوربة. رمتني زميلة في فريق العمل بنظرة استفهام مختلطا بالريبة. كنت قد رتبت بالبريد الإلكتروني مع “شاب” ليمر بالفندق ويصحبني في جولة بالعاصمة قبل أن أغادرها في الصباح الباكر إلى شاطئ المحيط ومزارع العنب. الشخص الذي رتبت معه كان شابا في مثل عمري عندما تعرفنا إلى بعضنا لأول مرة قبل ثلاثين عاما. الشخص الذي كان ينتظرني عند موظفة الاستقبال مستجيبا لرسالتي لم يكن شابا. قدرت أن يكون في أواخر الخمسين. بادرني بعد الحضن الأول بمجاملة معتادة تخص شكلي الذي في نظره لم يتغير. ولمعرفتي بطبائع هذا الشعب قابلت مجاملته بمثلها. المؤكد أنني ما كنت عرفته لو لم أكن أنتظره ولو لم تقدمه لي موظفة الاستقبال بالاسم. حاولت أن أخفي بعض خيبة الأمل. انتظرته شابا يتحمل تنفيذ ما خططت من تفاصيل سهرة مكثفة الأنشطة فوجدته يحمل علامات رجل لا يسهر، وحتى إن جاملني بقبول السهر فالعلامات نفسها توحي بأنه غائب عن كثير من تفاصيل المدينة ولياليها. تحركت بنا السيارة ومع السائق تعليمات من صديقي بالتوجه إلى مطعم وصفه بالأشهر والسمعة الطيبة. استأذنت أن أوجه السائق نحو جولة قصيرة قبل الوصول إلى المطعم. درنا في الشوارع وأنا أستفسر عن مقهى اشتهر بشراب من تأليف صاحبه وتركيبه وعن مكتبة كانت تنفرد ببيع صحف أجنبية. خرجنا من وسط المدينة إلى حي بعينه وهناك استفسرت عن بيت من طابقين وحديقة صغيرة على ميدان تتوسطه نافورة مياه وعن موقف حافلات ركاب خط من خطوطها يصعد الجبل القريب من هنا. كل هذه الاستفسارات قوبلت من السائق والمضيف بإجابات سلبية.
تنبهت متأخرا إلى أن الأشياء هنا أيضا مع الزمن تتغير. تمنيت لو عادت بي الأيام وصعدت حتى نهاية خط حافلة الجبل لأجلس على أريكة خشبية بعينها وأشرب شرابا دافئا وأسمع صوتا لا غيره. طلبت من صديقي أن يعيدني إلى الفندق ولكن بعد أن نمر على حي شعبي ونقف أمام عربة يد ورجل يقودها، هو في الغالب نازح آخر من بيرو، يشوي قطعا من قلوب البقر الغاطسة في مزيج خاص من البهارات الحارة. سمعني السائق وعرض اصطحابنا. كانت كعهدي بها وجبة “على الواقف” ممتعة. غادرت سنتياجو حزينا.
من الذي تغير؟ تغيرت أنا أم تغيرت المدن؟ كدت ألقي باللوم على المدن مثلما فعل الشاعر أبو ريشة مع مرآته التي اتهمها زورا بخيانة عهود مودته فتغيرت وجعلته وهو الذي لم يتغير يبدو مسنا. أتيت كثيرا على نفسي حين اعتقدت أن المدن التي أحببتها لا تشيخ، وإن شاخت ففي وقار وأبهة ودلال، أو حين اعتقدت أن المدن كائنات تجدد نفسها وتتجمل وتتأنق لتظل مرغوبة وعلى الأكثر لترضي غرورها. وقعت في غرام مدن ليست قليلة، بينها إن لم يكن في صدارتها الإسكندرية وبيروت وتونس وروما وفلورنسا ودمشق ومونتريال وأسوان وسانتياجو وبيونس آيرس وفيينا. مدن أخرى كثيرة عشت فيها لا أحمل لها أية مشاعر قوية. عدت مرارا لزيارتها ملاحظا ما طرأ عليها من تغيير ولم أنفعل بشدة أو أتأثر. بكين واحدة من هذه المدن وكذلك نيو دلهي وبانكوك وهونج كونج ولندن وواشنطن وميلانو ونابولي.
تغيرت مدن كثيرة في السنوات الأخيرة. صدمني التغير في أكثر من مدينة تبادلت وإياها الحب. مدن صارت باردة. مدن أخرى اندثرت بعض معالمها تحت طبقات من التراب والرمال وأحيانا النفايات. مدن ازدحمت فلا تراها وأنت داخلها. مدن نزلت فيها أنواع من سلالات التتار سرقوا جمالها، نهبوا آثارها بالليال وداسوا فوق حدائقها بالنعال، أقاموا في ميادينها تماثيل في قبح اللات والعزى، أزالوا الأشجار وأغاروا على الضواحي يشيدون ناطحات سحاب، مدن عديدة بضواحيها غاب عنها قرص الشمس فلا شروق تصبح عليه ولا غروب تودع به النهار.
نعم كلانا تغير. أنا تغيرت، صرت أكبر سنا. ومدن كثيرة أحببتها تغيرت، صارت أقل بهاء وجمالا. زحفت عليها أذواق القبح وعلى بعضها هيمنت.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق