لا يتقن محمد العبد الله في الحياة إلا فن الشعر.
حتى نكتته السوداء تجيء مموسقة، وحزنه المتغلغل في ثنايا الفرح المدوي والضحكة المجلجلة يعبّر عن نفسه بنغمات تنتظم شطورا في انتظار من ينثرها إيقاعات في لحن شجي.
لكن محمد العبد الله المختزن تراثا جنوبيا غنيا يفضل ترك فواصل من الصمت والايحاءات بين “قصائده”، لذلك ينقش البيت ثم يمضي بعيدا ليتركه يتفجر ويتشظى قبل أن ينصرف لنظم القصيدة ـ البيت التالية.
إنه يعتصر المعنى، يكثف الصورة، حتى لتشعر أن المساحة البيضاء المتروكة في الصفحات القليلة السطور لها وظيفتها: هي للتنفس، وللتداعيات التي تنداح مخترقة حاجز الحلم:
“قليلاً من الحزن هذا المساء
ولتكن قهوتي مُرة أيها النادل
أو لتكن ما تشاء
فإن المرارة أشعرها في فمي
عندما الأحباء
غادروا
فلوّحت شيئا من الروح نحو الفضاء،
وشيئا، وكدت ألوِّحه
لكنه مال نحو البكاء” .
إن البياض عند محمد العبد الله ”مفترس.. هاوية بلا قرار، كغواية الأشجار للعصافير”.
أما السخرية التي تتداخل معها المرارات والخيبة فتطل تقريبا من كل سطر، تشعر بحركتها وكأنها تكمن خلف الفواصل أو داخل النقط، أو في قلب حرف النون، أو في بطن “العين” أو “الجيم” أو “الحاء” الذي يختزل ارتعاشات أواخر الليل وأوائل النهار وما بين الفجرين:
محمد العبد الله يجوس داخل كل حرف، يتأكد من امتلائه، يتأكد من إمساكه بتلابيب الحروف الأخرى المليئة، ثم يستوثق من أنها استوفت معناها فيكرهها لأنها لم تتسع للمزيد، ويرميها ليبدأ إملاء الحروف والكلمات الأخرى لعلها تقول ما قصر عن إيصال معناه إلى سابقاتها:
“الحياة هناك” في مطرح آخر
وهذه الحياة مسوَّدة
تلك مسوَّدتي
ولا وقت لتصحيحها،
هل ترين، إذن، كم كتبت من الشعر
كي أصحح لعثمتي
في اختيار الهدايا
وفي الرقص”
محمد العبد الله يقول إنه من يوم أن أصبح صعبا عليه الكلام صار لا بد من أن يتكلم، وهو قد تكلم في ديوانه الجديد “بعد قليل من الحب، بعد الحب بقليل” الذي أصدرته دار الجديد مؤخرا وفيه نحو ستين قصيدة قصيرة ومقطعة كضحكة طفل.
“يخصب الكلام من نفسه
لما الكلام معقم، عقيم
زهرة الصبار”
وكذاب محمد العبد الله حين يقول:
“ومن يومها،
أقفل بوابة الليل بعد أن أشعل قش الظلام
ثم أنام..”
فلا محمد العبد الله يعرف النوم، ولا هو يترك النوم ينام، بل هو منهمك دائما في التأليف وإعادة التأليف:
“وأؤلفك مرتين
كلاما ينبغي أن تقوليه
لولا عرقلة السير وعيون الآخرين
وكلاما
لكي لا أنساك بين غيابين
وأؤلفك مرة أخيرة
لأتابع ورطتي بفتنتك الغامضة
وأنا أحاول الإمساك
بزرقة البحر..”
ومحمد العبد الله هو هو ذاك المتمخطر بين سطوره:
“كأنه
كأنه يربط العالم بحبل
جثة العالم
ويجره وراءه” …
وهو يضحك ويضحك ويضحك ممن يصدقه ومن العالم ومن الجثة ومن الحبل ومن ذلك المجرور وراءه!
يضحك وينصرف إلى حب جديد، قصيدة جديدة، مساحة بيضاء جديدة بين كلمتين جديدتين!