في أيام ليست بعيدة لم نكن نسمع من أبناء وبنات الطبقة الراقية في أمريكا شكاوي إلا نادرا وأغلبها يصدر عن أفراد مرفهين للغاية أو نشأوا في بيئة أو عائلة شديدة التعصب. النسبة الغالبة من الشاكين حسب ما أذكر كنا نجدها في صفوف أبناء وبنات الطبقة الوسطى. أما الطبقة الدنيا وغالبيتها من الملونين والمهاجرين الجدد ومن الساقطين في مسيرة الطبقة الوسطى فهذه غلبت على تصرفاتها سلوكيات التمرد ليس فقط تعبيرا عن الشكوى ولكن أيضا تجسيدا لها فعلا بعد قول.
تغيرت أمريكا. هذا ما يقول محبوها من الذين رافقوا مسيرتنا. نرد بالقول، نعم تغيرت. ولكن التغيير الكبير قادم على الطريق. عندما أعقد مقارنة بين “مجتمع صغير”، كنت عضوا فيه ومجتمع معاصر بنفس الحجم وللأسف لست عضوا فيه وأقصد صف السنة الأولى في برنامج الدراسات العليا في إحدى جامعات القارة الأمريكية، أخرج بقناعة خلاصتها كما صغتها في جملة قصيرة، “حدثت بالفعل تغيرات بدليل أن القضايا التي يهتم بها تلاميذ العلوم السياسية في السنة الأولى الحالية من برنامج الدراسات العليا في جامعة وقورة، تختلف عن القضايا التي كانت تشغلنا ونحن شباب من مختلف قطاعات وطبقات وضيوف المجتمع الأمريكي. تغيرت أمريكا ونحن أيضا تغيرنا.
كنا ندرس مثلا، وبحماسة فائقة، قضية ما عُرف وقتها بالمجمع الصناعي العسكري. هذا المفهوم الذي صاغه الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور ليحذر الشعب الأمريكي من مستقبل يزداد نفوذا فيه هذا المجمع فيطغى على ما عداه، وبخاصة المؤسسات الدستورية. كانت مفاجأة لنا ونحن طلاب أن يصدر هذا التحذير عن قائد أعلى للقوات المسلحة بصفته رئيس الدولة وعن جنرال قاد الحلفاء نحو النصر في حرب استخدموا فيها منتجات الصناعة الأمريكية وبخاصة الصناعة العسكرية. هذا المفهوم الذي صكه الرئيس ايزنهاور صار حجر الزاوية في كل الدراسات التي ظهرت منذ ذلك الوقت تدرس وتحلل التوزيع الطبقي في الولايات المتحدة وتشكيل الطبقة السياسية الأمريكية ودور البيروقراطية المدنية والعسكرية على حد سواء في صنع القرار الاستراتيجي الأمريكي.
قرأت مؤخرا تقارير تناقش الأسس الجديدة للسياسة الخارجية الأمريكية. بين هذه الأسس التقيت مفهوم المجمع العسكري الصناعي يعود مهيمنا وقد تغيرت صياغته. سمعتهم يطلقون عليه “المجمع الرقابي الصناعي العسكري”. أضيف إليه المكون الرقابي وفي نظرهم أنه لا يقل أهمية ولا تأثيرا عن المكونين التقليديين، الصناعي والعسكري. هكذا نستطيع القول وبكل الاطمئنان الواجب عند تقويم ما هو آت في المستقبل، أن لا أمن ولا دفاع ولا استراتيجية متينة ممكنة بدون إدماج عنصر الأمن الداخلي ضمن تفاصيل صنع قرار السياسة الخارجية وإدراج المواطن الفرد طرفا أساسيا ضمن أطراف السياسة الخارجية. يبدو على كل حال أن الفضل يعود إلى كل من إسرائيل والصين، وربما سويسرا، بصفتها من أوائل من قدموا إبداعات على صعيد تكنولوجيا الرقابة على المواطنين كافة، وتكرموا ببيعها في عديد من الأسواق وفي مقدمتهم السوقان الأمريكية والبريطانية وأسواق عربية.
يلفت النظر أن الدول التي فضلت نهج الغموض في التعامل مع الأغراب كانت في مقدمة الدول التي أبدعت في تطوير فنون وتكنولوجيات العدوان على خصوصيات الأفراد. زد على إمكانات هذه القوة، ما بين الصلبة والرخوة، زد عليها تكنولوجيا وأجهزة وذكاء “عمليات اقتفاء الأثر” تصبح الدولة المالكة لها أقوى في مواجهة خصومها، أو أداة طيعة في خدمة هذا المجمع الرهيب.
يحاولون طمأنة الناس. يقولون أن المعلومات الخاصة جدا التي سوف تتاح نتيجة استخدام عمليات اقتفاء الأثر لن تذهب إلى مواقع مركزية تحللها أو تستفيد منها بالبيع أو التشغيل. يأتي الرد من السرعة التي استخدمت بها الصين هذا الإبداع. رأينا كيف سلطت الكاميرات على الجماهير المتدفقة فحصلت على المعلومات التي توختها، من هو هذا المواطن أو هي، من أين وفي الطريق إلى أين، وهل يحمل معه أو تحمل معها فيروس الكورونا، حرارة الأجسام تشي بمرض. بريئة السلطة حتى الآن رغم أن الدولة لم تستأذن والقانون لم يستشر أو على الأقل يراعى. بمعنى آخر، ستكون أمريكا في الشهور والسنوات القادمة في انتظار خرق جديد لنظام وفلسفة الحكم بالقانون. بمعنى ثالث ينضم إلى تراث دونالد ترامب في إهماله القانون واعتداءاته المتكررة عليه بنود جديدة. بمعنى رابع، سوف تزداد عمقا الدولة العميقة التي يخشاها بل ويكرهها ترامب، وهي أيضا لا تحبه. هذه الدولة العميقة حاربته. كادت تفتك بمستقبله في الحكم وفي السياسة برمتها. أجهض سعيها فوضى الحزب الديموقراطي واستماتة الجمهوريين تمسكا بالحكم. لم تفلح جهود عزل الرئيس. أفلت ترامب ولكن بتكلفة كبيرة. أهين الدستور الأمريكي وتلاعبوا بالقوانين. اهتزت إلى الأعماق مكانة الدولة وازدادت قوة وإصرارا تيارات التفكيك والقوى المتطرفة في قوميتها ويمينيتها. عاد يطفو على سطح السياسة في أمريكا صوت الكونفدرالية وصراخ “الزنج” وخطابات الحرب الأهلية، وهذه الأخيرة تعتمد على أقوال متهورة يدلي بها رئيس البلاد بين الحين والحين. شاهدنا مظاهرات قبل أيام قليلة تتجمع في حراسة رجال مسلحين بالرشاشات الثقيلة، وصفهم ترامب بالطيبة، بل ودعاهم بأسلحتهم لتحرير عواصم ولاياتهم من حكم الديموقراطيين. خطير أمر أمريكا في المستقبل إن هي استعادت رخاء أقلية فيها وفقر أقلية أخرى وتدهور حال أغلبية في الطبقة الوسطى. في الوقت نفسه يبقى مهيمنا على الطبقة السياسية المجمع الرقابي الصناعي العسكري ويبقى ضاغطا بقوة متزايدة التيار الشعبوى المتطرف في قوميته وعنصريته.
أسأل النفس أحيانا إن كان شعار “أمريكا أولا” أو لبنان أولا أو انجلترا أولا حقق فائدة تذكر لكل من أمريكا ولبنان وانجلترا على التوالي ولكل دولة رفعوا لها شعارا مماثلا. أعتقد أن التجربة الأمريكية أثبتت فشل هذا الشعار في تحقيق مصلحة حقيقية وطويلة الأمد للولايات المتحدة. إذ اتضح أن شعارا آخر كان يختبيء وراء شعار أمريكا أولا وهو شعار “أنا أولا”. هذا الشعار متهم الآن بأنه جسد قيم تعالي الجنس الأبيض عما عداه وكشف عن حالة تطرف شديد لدى الرئيس ترامب في حب ذاته وليس حب الوطن. ألم يتجاهل الرئيس المعلومات الاستخباراتية والإعلامية ومن مصادر في الدولة العميقة تؤكد جميعها المعلومات عن انتشار متصاعد لفيروس الكورونا. تجاهل الرئيس مصلحة أمريكا حرصا على عدم الإضرار بمصلحته الشخصية، أنا أولا. ثم شن بنفسه حرب كراهية وكذب ومعلومات زائفة، أو على الأقل غير ناضجة، عن تقصير أو مؤامرة دبرتها الحكومة الشيوعية في بكين، لصنع فيروس أو ترويجه أو كلاهما معا.
تنتظر أمريكا أياما صعبة وتعقيدات جمة، وبالتالي تنتظرنا بالمثل وإن بدرجات متفاوتة تداعيات بعض أزماتها القادمة وبشكل خاص الأزمات الناتجة عن التهورات المتوقعة عند احتدام المنافسة مع الصين.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق