عشت فردا في جيل منبهر بالغرب وغاضب منه. كنا في بيوتنا، وأقصد كافة بيوت عائلتنا الممتدة، وفي مدارسنا وجامعاتنا وخلواتنا نرتدي ملابس الإفرنج ونقبل على تعلم لغاتهم ونقلد كثيرا من سلوكياتهم. كنا نتباهى بما حققنا من التقليد وفقدنا من التقاليد. قضينا معظم ساعات الترفيه نقرأ رواياتهم ونشاهد أفلامهم ونسمع موسيقاهم وأغانيهم. كان أقرب أساتذتنا إلى قلوبنا الذين يحاضرون بلغة أوروبية. لكننا لم نهمل لغتنا. كم تسابقنا في مباريات الخطابة بلغة عربية فصحى وكم من أستاذ لغة عربية جرت ترقيته أو نقله إلى مرتبة أعلى بعد شهادة من مشرف زار فصولنا وتبادل معنا نقاشا مطولا بلغتنا الجميلة حول قصيدة أو أخرى. انبهارنا بالغرب وانضباطنا بالفصل لم يمنعنا من أن نكون في مقدمة المحرضين على الإضراب للتعبير عن رفضنا وجود الإنجليز على أرضنا. كتبنا ضدهم بلغتهم في صحف الحائط ولم نقاطع ثقافتهم.
شاءت ظروف أن انتقل إلى الهند للعمل هناك ولم يكن قد مضى على تخرجي عامان. وجدت الهنود منبهرين مثلنا بالغرب ولكن أقل غضبا. الغرب في الهند لم يكن كالغرب في مصر. الغرب هناك كان إنجلترا ولا شيء آخر. حتى أمريكا لم يهتموا بها إلا قليلا وابتداء بالحرب العالمية الثانية وسير القتال الدائر في بعض جهات جنوب شرقي آسيا وشرق المحيط الهادي. أفلاما لأمريكيين ورواياتهم وثقافتهم الشعبية، الغربية طبعا، لم تلق اهتماما لدى طبقة المثقفين والموظفين كالذي لاقته لدى الطبقة نفسها في مصر. كان واضحا لغريب مثلي أن الهنود ارتاحوا لكل شئ إنجليزي ولم يرتاحوا لأي شئ فرنسي أو أمريكي أو إيطالي. لا أذكر أني سمعت في ذلك الوقت هنديا يتحدث مع أجنبي باللغة الفرنسية أو بأي لغة غربية أخرى. كنت مختلفا. أنا القادم من مجتمع، وبدقة أكثر قادم من شريحة مصرية، شاءت ظروفها الاجتماعية أن تعيش في وقت تعددت فيه الهويات الغربية في أهم المدن المصرية وربما جميع المدن المصرية وإن بدرجات متفاوتة من الكثافة والنشاط. لعبت الكرة في شارع بالسكاكيني ضد فريق الحي ونصف الفريق من الإيطاليين واليونانيين والأرمن. عشت شهورا مع عائلة إيطالية بحي كامب شيزار بالإسكندرية عندما كنت أجرب العمل في شركة أمريكية تبحث عن النفط غرب الإسكندرية. عندما يأتي المساء كنا المصري والإيطالي واليوناني والأمريكي نقضي ساعات في سينما صيفية بحي الإبراهيمية المجاور للحي الذي أقيم فيه، وبعد السينما نتوجه إلى محطة الرمل حيث المطعم الجريجي المحبب إلى نفوسنا يقدم أشهى أطباق ثمار البحر. شيء من هذا لم أجده في بومباي وكلكتا ونيودلهي. حتى الإنجليز عندما كانوا حكاما للهند لم يعاشروا الهنود إلا نادرا، ومن بقي منهم في الهند بعد الاستقلال لم يختلط. في مصر اختار النساء الزي الغربي في مرحلة مبكرة من مراحل الاختلاط بالغرب وتحديث مصر خلال حكم الأسرة العلوية. أما في الهند فقد تعمدت المرأة الاحتفاظ بالزي الهندي ولعلها لم تجد مناسبا أن ترتدي ثيابا غربية بينما الإنجليز حكاما وموظفين فضلوا الانعزال وعدم الاختلاط بالهنود. ففي كل الأحوال سواء ارتدت أو لم ترتد ثيابا أوروبية فإن أحدا في الجالية الإنجليزية لن يدعوها لبيته أو مزرعته أو قصره الفاخر في جبال سيملا أو في وديان مسوري.
المصري مدين للغرب ككل بالكثير ولإنجلترا بالقليل، أما الهندي فمدين للإنجليز بأكثر مما هو مدين للغرب، وأستطيع القول أنه لا يدين للغرب الأوروبي ولأمريكا بشئ. المصري مدين للغرب الأوروبي بعمارة القاهرة الحديثة عاصمته والإسكندرية جوهرة ساحله الشمالي. اشتهرنا في عالم البحر المتوسط بالمدينتين وللحق نعترف أنهما كانتا أجمل مدننا قبل أن تمتد لهما الأيدي الخشنة تهدم الجميل وتشيد القبيح. يستطيع الهندي أيضا أن يفخر بعمارة الإنجليز ولكن أهم دواعي فخره فيما أتصور هو نظام الحكم. لقد ترك الإنجليز للهنود نظاما قضائيا وإداريا يديره عدد محدود من الأفراد. تركوا نظاما للخدمة المدنية لفت أنظار واهتمام كل تلاميذ علم السياسة وإدارة شؤون المواطنين. هذا النظام، مع النظام القضائي والقواعد الديموقراطية سمح للطبقة السياسية التي ورثت الحكم في نيودلهي من التاج البريطاني أن تحافظ على استقرار دولة بعدد سكان لم يحلم المستعمر البريطاني في أي يوم بأن خليفة له سوف يواجه هذا الرقم الذي يمكن أن ترتعد أمام طلباته وحاجاته أوصال حكام كثيرين في العالم. لا شك أنه بالنسبة لكثيرين، وبخاصة بالنسبة لمن عاش في الهند أو درس ظروفها ومذاهبها وعقائدها، فإن استقرار الهند ما زال يمثل معجزة يظل فك طلاسمها أمرا محيرا ومتحديا. يبقى محلا للتساؤل حال مجتمعات عديدة خضعت للاستعمار البريطاني ولم ترث تقاليد وستمنيستر ومبادئ الحرية والديموقراطية وبخاصة مبدأ تداول السلطة في ظل استقرار وسلام. الواضح أن الهند بسبب تعدديتها الفائقة استطاعت أن توفق بين أفكار الغرب في الحكم الديموقراطي وأفكار وتراتيب الهند الاجتماعية وعقائدها الدينية ومنها تعددية الآلهة. هذه الأمور لم تكن متاحة في ظروف مصر والسودان وغانا ونجيريا وعديد الدول التي خضعت طويلا أو قليلا للاستعمار الانجليزي وجربت تطبيقات تقاليده الديموقراطية.
وقعت الصين تحت سيطرة استعمار متعدد الجنسيات والهويات. كان الإنجليز طرفا واحدا بين أطراف عديدين. كلهم من الغرب إلا واحدا وهو اليابان. هناك من يعتبر روسيا خارج الغرب وأنا لست من هؤلاء. كنت تستطيع في وقت من الأوقات أن تشعر بمدى كره الصينيين للغرب متضمنا روسيا. أما اليابان فكان وما يزال لها في الصين رصيد من الكره يتفوق حجما وعمقا على الكره المخصص للغرب. هناك وفي أماكن ظاهرة على نواصي شوارع مهمة كنت ترى لافتات بالصينية والإنجليزية وأحيانا الفرنسية والروسية والألمانية تحذر الصينين والكلاب من دخول أحياء بعينها أو تقترب من سفارات ومدارس غربية. لم يحدث هذا في مصر من جانب المستعمر الإنجليزي ولكن حدث ما يقترب من هذه الحال من جانب المستعمر التركي والحكام المماليك أيام الإمبراطورية العثمانية. لم يمنع الدين الواحد ممارسة التمييز ضد الوطنيين المسلمين في مصر وغير مصر في دول المشرق.
كتبت هذه السطور بعد أيام قضيتها متأملا أحوال الغرب الراهنة، وأكثرها أحوال لا تسر عدوا ولا حبيب. ابدأ بالمملكة المتحدة التي كانت تلقب ببريطانيا العظمى حتى وقت غير بعيد. كنت مسرورا بمتابعة الجدل بين السيدة تيريزا ماي والسيد كولبيرت زعيم المعارضة العمالية. هي الديموقراطية في أجمل تجلياتها. فجأة سمعت الزعيم العمالي يحذر من أزمة قد تؤدي إلى نهاية الديموقراطية في بريطانيا. كان للتحذير في مخيلتي وقع الصدمة. لم أناقش يوما أو أتخيل أو أتصور أن للديموقراطية في بريطانيا نهاية. تعلمت بالممارسة الشخصية أو بالمتابعة عن بعد أنها يمكن أن تنتهي في بلاد أخرى. انتهت في ألمانيا على أيدي هتلر والنازية وفي إيطاليا على أيدي الدوتشي والفاشية، ولم تصمد في عشرات الدول أمام شهوة السلطة ولكن أيضا أمام تزايد حاجات الناس ونقص الموارد لتلبيتها. وهي الآن مهددة بالسقوط في دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي وفي حلف الناتو. أكثر من هذا نرى طبقة سياسية في أمريكا تتلاعب بها غير عابئة بتكلفة هذا التلاعب ونشاهد جماعات هى بالفعل متواطئة مع روسيا أو الصين أو غيرهما لإسقاط الديمقراطية في واحدة من أهم قلاعها وهي الولايات المتحدة الأمريكية.
أقرأ توقعات لبعض مفكري الغرب عن مرحلة أفول الغرب. يعتقد كثيرون أن الغرب دخلها فعلا وقليلون يأملون في أن تغيرات جذرية وثورية هي على الطريق لإنقاذه من الأفول وعودته إلى الازدهار والتوسع كالعهد به على امتداد قرون عديدة استطاع خلالها أن ينشر ثقافته ومنها عقيدته السياسية لتصبح ثقافة عالمية وليسجل نفسه صاحبا لحضارة لا يجادل في عظمتها أحد. سمعت واحدا من هؤلاء القليلين يقول إن الغرب يستطيع تجديد ذاته لأن قواعد حضارته وثقافته تشجعه على التجديد والتغيير والنمو، بينما قد لا تتوفر هذه القواعد في حضارات شرقية.
الغرب لم يعد الغرب الذي عرفناه، الغرب الذي حاربت دولنا في صفوف قواته دفاعا عنه وثارت شعوبنا ضد نفاقه وعدوانيته واستغلاله ثرواتنا، الغرب الذي سرنا في التعليم وأساليب حياتنا على دروبه، هو الغرب الذي تلقينا على أيديه تعاليم الحرية والديموقراطية فأخفقنا في حفظها أو تطبيقها أو حتى تقليدها. هو الغرب الذي رأيته هذا الأسبوع وأنا أتأمل في حقيقة ومغزى التطورات في واشنطن ولندن وبروكسل ووارسو وبودابست وروما وبرازيليا وبيونس آيرس، رأيته مهددا بالسقوط.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق