صار الحديث عن ”ماضينا” بكائيات.
وصار الحديث عن ”مستقبلنا” تهويمات أو تهيؤات أو إسقاطات لآمال كسيحة تعذر تحقيقها سابقاً فأحلناها إلى المستقبل، أو- وهذا هو الأخطر- انحرافات بل انجرافات مع ”المشاريع” السائدة أو المروَّج لها لكي تسود، مع نبرة اعتذارية عن كل ما تقدم من ذنوبنا وما تأخر.
نحن نعتذر مئة مرة في اليوم عن نزوعنا إلى التحرر والاستقلال والسيادة، ونعتذر بجهلنا وبنقص فهمنا للتحولات التي ألغت الحدود والسدود وجدران ”البرلينات”، فلم يعد بالتالي للاستقلال والسيادة والتحرر أي معنى إلا استفزاز النظام العالمي الجديد.
ونحن نعتذر ألف مرة في الساعة عن قولنا، ذات يوم، بتحرير فلسطين، ونكاد ننكر صلة القربى أو حتى المعرفة بأولئك المهووسين الذين نادوا بالكفاح المسلح، ونتنكر لآلاف الشهداء من فتياننا الأبرار الذين حملوا أرواحهم على أكفهم واقتحموا بها الستار الحديدي المصفح للكيان الاسرائيلي لكي يثبتوا بدمائهم حقهم في أرضهم العربية فلسطين وقدسها الشريف.
ونحن نعتذر مليون مرة في الدقيقة عن أننا انسقنا مع غواية إبليس اللعين فقلنا بالاشتراكية حلاً لمشكلة تفاوت الدخول وتحكّم أصحاب الامتيازات بثروات البلاد، الطبيعية منها كالغاز والنفط ومشتقاته والأرض وغلالها، أو المكتسبة كالسلطة ومنافعها العظيمة، وكان ذلك اعتراضاً لا يغفر على إرادة من لا رادّ لإرادته الذي له الحق وحده في أن يقسم الأرزاق كيفما يشاء، والذي عز وجل خلق الناس وجعلهم درجات وهو وحده يعطي من يشاء ومتى يشاء وبغير حساب.
* * *
على امتداد أربعة أيام، شهدت بيروت ”تظاهرة” عربية مكتومة الصوت، محدودة الحركة، أما تأثيرها فبحث ”معنوي”، لا يتجاوز إطار الذكريات وتجديد الصلة أو توطيد الصلة بين خصوم الأمس المتساوين اليوم في اليتم وفي افتقاد القدرة على التأثير.
بإذن خاص، واستثنائي، تطلب شفاعات ووساطات بُذل فيها بعض ماء الوجه، أمكن لخير الدين حسيب أن يتحصل على ”موافقة عليا” على عقد المؤتمر القومي العربي السادس في بيروت.
سابقته إسرائيل فسبقته إلى سائر العواصم.
وجامل القمع فلم يقبل مجاملته أو مناورته، وظلت أبواب العواصم الأخرى موصدة في وجه هذا المؤتمر الذي يحمل في اسمه كل أسباب موته.
المهم، أن حوالى مئة وخمسين شخصية عربية قد وصلوا فانتظموا جلوساً إلى طاولة النقاش الممتدة بمساحة الهمّ العربي العام، في فندق الكارلتون ببيروت.
بنظرة واحدة إلى الوجوه المتعبة المكدودة لهؤلاء الآتين من مختلف بقاع المشرق والمغرب، كان يمكنك استخلاص ”حال الأمة”.
هناك أولاً المنفيون الذين يعيشون منذ دهر خارج أقطارهم، وخارج أحلامهم ذاتها، وأعظمها حلم العودة.
وهناك، ثانياً، المنفيون داخل أقطارهم، وهؤلاء هم الأكثرية المطلقة، الذين لا يملكون الجرأة على تصور أنهم قد يصنفون مواطنين وبشراً وأصحاب حقوق طبيعية في أرضهم، ذات يوم.
هناك أصحاب التجربة الخائبة التي استعادت الآن شيئاً من اعتبارها لأن التجارب التي وقعت بعدها كانت أعظم منها خيبة.
وهناك الذين ضاعت منهم فرصة التجربة لأنهم وصلوا ”متأخرين”، تماماً كما ضاعت فرصة التجربة من غيرهم لأنهم وصلوا قبل الأوان.
وهناك، بطبيعة الحال، تلك الفئة المحترفة من ”المؤتمرين”. و”المؤتمرون” هنا توصيف لمهنة، فثمة في كل مجال مجموعة حاضرة باستمرار وجاهزة دائماً، تراها في كل مؤتمر سواء أكان متصلاً بالبيئة أم بتنظيم النسل أم بتطبيق المناهج الاشتراكية أم بالاستعداد لموجبات النظام العالمي الجديد، لاعتماد ”حرب التحرير الشعبية” أو لتزخيم مسيرة الحل السلمي الخ…
* * *
تسرح ذكرياتك مع صور من ”الماضي الجميل”، فتستهول تباعد الشقة بين ما كان قبل سنوات قليلة وما هو قائم اليوم، وقد سقط كثيرون ممن تراهم الآن في الهوة السحيقة بين الأمنيات والقدرات الفعلية، بين الادعاءات والاستعداد الذاتي، بين شجاعة التورط في الغلط وبين الجبن في التراجع عنه أو مجرد الاعتراف بارتكابه.
لا مكان للشعراء هنا.
أما الأحلام فقد وأدها أصحابها في مقبرة السلطة حين قاربتهم أو قاربوها، ولم تستبقِ منها ”قسوة الواقع” شيئاً!
هل ما زال هذا الرهط من الرجال يملك ما ينفع به المستقبل، فعلاً؟
وهل لو وقع المستقبل على رؤوس هؤلاء وقال لهم: ”شبيكم، لديكم، أنا عبدكم وبين أيديكم”، لأمكنهم الاتفاق على ”استقباله”، والتعامل معه، وعدم الاقتتال حول من الأجدر ومن الأولى ومن هو صاحب الحق الشرعي فيه، قبل الدخول في النقاش حول مواقعهم داخل سلطته العتيدة؟
الفكر عزيز، والكلام غزير، وليست صلة الأبوة والبنوة مؤكدة دائماً، فكثير من الكلام لا يعبّر عن فكر ولا يصدر عنه، بل هو قد يطمسه أو قد يلغيه أو قد يلعنه ويحرمه تحريماً.
* * *
لماذا هربت الأحلام من الأيدي التي ائتمنت عليها؟!
لماذا التهمت السلطة الرجال الذين قالوا: نحن لها؟
لماذا وقع الطلاق بين الفكر والممارسة فاستُعين بالقمع لملء الفجوة السحيقة بالصمت العميق كما الموت؟
لماذا تصاغر الرجال أمام الامتيازات والمنافع والمتع الصغيرة، فأضاعوا الطريق والهدف ثم أكلتهم سلطتهم ذاتها وجعلتهم جيفاً أو سدوداً في وجوه أبنائهم وأحفادهم الذين يفترضون أنهم يستحقون غداً أفضل من هذا الذي خلفه لهم آباؤهم؟
لماذا تبدو الخمسينيات أكثر إشراقاً من التسعينيات، والستينيات مليئة بنعمة الإنجاز أكثر من مقدمات القرن الحادي والعشرين؟
أين ذلك الإنسان العربي الذي كان عظيم الحضور قبل نصف قرن والمتلاشي ذكره وتأثيره الآن، بينما تعلق كل الهزائم على على ظهره ويُدان من دون محاكمة، بينما هو يتشهى أن يسمع ممن حكموه دهراً كلمة نقد ذاتي واحدة، أو اعترافاً أولياً بنقص الاستعداد أو بالعجز أو بالمسؤولية عن التقصير أو بعدم استيفاء الأهلية لمعارك شرسة كانت تتطلب عقولاً وعلوماً وكفاءات لم يتيسر توفيرها، أو حرم أصحابها من المشاركة لعدم الاطمئنان لولائهم للنظام؟
* * *
“ المؤتمر حاضر.
لكن ”القومي” موضع التباس جدي.
وأما ”العربي” فغائب، أو مغيّب: المشارك هنا ممنوع من الوجود وبالتالي من المشاركة حيث يستطيع الفعل، أما الغائب ومعه المغيّب فمقموع ”هناك” وملغى تأثيره تماماً بحيث يكاد مثل ”الحاضر” هنا الذي لا يفعل غير ”البكاء” على الذي كان أو مطالبة ”غيره” بالتنبه وبمحاولة منع ما سيكون، مما لا يستطيع هو معه شيئاً.
مع ذلك كله، وعلى طريقة ”القليل خير من لا شيء”، علينا أن نعتبر مجرد انعقاد المؤتمر القومي العربي ”إنجازاً”.
ترى، هل سيمكن عقد المؤتمر السابع، ولو من أجل تبادل التحيات قبل الوداع الأخير؟