في لبنان هذه الأيام الكثير من الجدل، ولا حوار.
وفيه الكثير من المشكلات المعقدة، سياسية واقتصادية واجتماعية، والقليل من مشاريع الحلول المتوهمة أو المبسطة أو الجزئية.
في الجدل الدائر تغلب الشخصانية على الموضوعية، وتلقي المصالح والعواطف الخاصة بظلها، فإذا الاعتراض تحدّ، وإذا السؤال استفزاز، وإذا طلب الإيضاح انتهاك للكرامة!
على سبيل المثال: فإن المناقشة الموسعة لقانون المحاكمات الجزائية ومحاولة توفير الضمانات البديهية للمتهم، والحد من سلطات »القضاء الواقف« في الاعتقال والتحفظ، تصوَّر وكأنها تحدّ مكشوف ومعركة كسر عظم مع رئيس الجمهورية!
أما المطالبة بطرح ما تضمنه تقرير البعثة التي أوفدها صندوق النقد الدولي إلى لبنان حول الدين العام، على النقاش المفتوح، باعتباره مدخلاً إلى مناقشة المسؤوليات والتبعات التي ستقع على عاتق اللبنانيين جميعاً، رجالاً ونساءً وفتية وأطفالاً وأجنة، لأنهم جيلاً بعد جيل هم مَن سيسدد هذا الدين الثقيل وأعباء خدمته الباهظة.. فتلك هي »الحرب« على الحكومة ورئيسها وفريقه الاقتصادي.
صار النقاش حول الدين العام هو مصدر الخطر، لا الدين بأسبابه الأصلية أو بالتداعيات التي أدت إلى بلوغه هذه المعدلات الثقيلة التي تتهدد مستقبل أبنائنا وأحفادنا، والتي تتطلب منا الشجاعة والحكمة والتفكير العميق والتكافل الاجتماعي الصلب ونحن نرسم الخطة لكسر الحلقة الجهنمية التي نكاد نختنق فيها، إذ نستدين لسداد فوائد الدين، متباهين بأننا نجد دائما مَن يقرضنا، ونشتري الزمن لنبعد موعد الانفجار عن أيامنا، كأنما الإرجاء حل.
وعلى سبيل المثال: فإن النقاش حول الخراب الذي يتهدد مؤسسة كهرباء لبنان يقتصر على التقنين أو الخلل الإداري فيها أو الكلفة العالية التي يتكبدها المكلَّف، ولكنه يتجاوز حقيقة أن هذا المكلَّف المستغفَل قد دفع من حرّ ماله ما قد يصل إلى ملياري دولار على هذه المؤسسة قبل ست سنوات فقط، ومع ذلك فقد نقصت ساعات الإضاءة ولم تزد، وزادت الأعطال في محطات التوليد والتقوية، من دون أن يجرؤ أحد على محاسبة مَن اشترى ومَن كان وسيطاً، ومن غشنا في التوصيف أو التركيب أو في تشغيل ما لا يشتغل!
بل إن مجرد المطالبة بالمحاسبة تُعرّض القائل بها إلى اتهامه بأنه إنما يريد إعادة فتح سجلات الحرب الأهلية وتبرئة أرييل شارون من المسؤولية عن مذبحة صبرا وشاتيلا.
وعلى سبيل المثال: فإن تهمة المخاصمة أو المكايدة توجَّه فوراً إلى من يسأل عن سبب التعثر، ماضياً وحاضراً، في المفاوضات مع شركتي الخلوي، وكيف انتقلنا من موعودين بمليار أو يزيد من الدولارات إلى مطالَبين بدفع نصف مليار أو يزيد من التعويضات لهاتين الشركتين الرابحتين حكماً.
… وتهمة المكايدة أو المخاصمة توجَّه أيضاً إلى مَن اعترض على مشروع تفريع كازينو لبنان وتعميم القمار، وربما فرضه في المناهج المدرسية على كل فتية لبنان فضلاً عن رجاله ونسائه، أوليس اللبنانيون من رواد المغامرة، وممن يلقطونها وهي طائرة. ثم أوليس حظهم من السماء، هم الشطار أولاد الشطار من مكتشفي أفريقيا ومن معلمي أوروبا؟!
إن المشكلات أعقد من أن تُحَل بشخصنة المعارضة.
وفي الاقتصاد، بالتحديد، يتهاوى الكلام أمام الرقم، وتسقط التبريرات المستنبطة على عجل أو التي تجتزئ الحقيقة، أو التي تغفل الجدوى، أو التي تضع العلة في سوء الترجمة.
إن الوضع الاقتصادي المأزوم يتطلّب حواراً وطنياً موسعاً. إنه يستدعي أن تعلَن حالة طوارئ وطنية، وأن يشارك كل صاحب رأي وكل صاحب خبرة وكل صاحب اجتهاد، سواء من داخل المؤسسات القائمة أو من خارجها، في التفكير والبحث والدراسة سعيا إلى اقتراحات حلول لا تشكل تحدياً لحاكم أو حكومة، أو استنزافاً لمحكوم، بل هي توصلنا جميعا إلى تصور مشترك لخطة الخروج من نفق الأزمة، حيث يتهددنا الاختناق حكاما ومحكومين.
والسؤال: مَن يستطيع تقبّل أن يتحول الجدل إلى حوار، وأن يتركز البحث على الحل المرتجى للوضع المأزوم بدل الاكتفاء باتهام المنبهين إلى خطورة الأمر بأنهم خصوم أو حلفاء للخصوم المتوهمين.
نشر هذا المقال في جريدة “السفير” بتاريخ 28 تموز 2001