أجد نفسي، أيها الفتية، وأنا في مواجهتكم وكأنني أواجه لجنة فاحصة متقدما لامتحان شديد الصعوبة أبسط الاسئلة فيه هو الاخطر، أما الاجوبة فصحيحها يدفع الى اليأس، أما الخاطئ منها فتضليل يأخد الى الانتحار.
وأعترف سلفا بأنني لا أملك الكثير من الاجوبة التي تعزز الأمل في نفوسكم، بل لعلني جئت لأستمد منكم الأمل، مفترضا أنكم وقد نشأتم في ظلال دوحة العلم الوارفة للسيد المرجع في شؤون الدنيا كما في شؤون الدين، آية الله محمد حسين فضل الله، فلا بد أنكم تعرفون ما ينتظركم من مصاعب، وتؤهلون أنفسكم لمواجهة التردي والانحطاط والتخاذل والتقدم بالارادة والكفاءة نحو الغد الأفضل.
وها هي إنجازات هذه الجمعية المباركة، جمعية المبرات الخيرية، تشهد ان لا مستحيل مع الارادة، وان الاصرار والمتابعة وحسن التدبير واعتماد المناهج العلمية والعملية، والفهم الدقيق للظروف وأحوال الناس، ومخاطبة إرادة الخير فيهم، كل ذلك ينبت في الارض عمائر للخير ومنارات للعلم ودورا للرعاية والتكافل الاجتماعي مما تعجز او تنصرف عنه حكومات باغية او لاهية.
إننا نعيش، على المستوى العربي (والاسلامي)، حالة تراجع مشين. ان أوضاعنا الذاتية تأخذنا الى الهزيمة قبل ان ينجح عدونا في إيقاعها بنا، وقبل ان نلتفت الى العدو باللوم والاتهامات بالتآمر والتواطؤ وشن الحروب الظالمة ضدنا، علينا ان نلتفت الى أنفسنا بالنقد وكشف وجوه الخلل وفضح المشبوه والمتواطئ والمتخاذل او الهارب من الميدان.
ان حكامنا وقياداتنا ومؤسساتنا مسؤولة عن هزائمنا الشنيعة بأكثر من العدو او الأعداء مجتمعين: اسرائيليين وأميركيين ومنقادين لهؤلاء او لأولئك.
ان تغييب الشعب عن القرار، بالقمع والارهاب الداخلي وكم الأفواه، لا يقل خطورة عن الهجوم المسلح يشنه العدو بأسلحة متطورة لا قبل لنا بمواجهتها.
ان العدو يواجهنا بمجتمعه موحدا، حكومة وإدارة وشبكة مصالح وتيارات سياسية مختلفة، لكن مؤتلفة خلف قيادة تراها مؤهلة لتحقيق النصر.
أما سلاطيننا فما زالوا ينظرون الينا، نحن الشعوب، اننا المصدر الأساسي بل ربما الوحيد للخطر، ولا يجدون رادعا من التواطؤ مع العدو ضد شعوبهم تارة بذريعة حماية البلاد من التدمير اذا ما أخذتها الى مواجهة غير متكافئة مع عدو لا حدود لقوته، وطورا بالزعم ان الحرب حيلة ولا بأس ان نحن احتلنا على إرجائها حتى يكتمل استعدادنا وهو لن يكتمل، ولا بأس من المهادنة ريثما تتضح الظروف وتتوافر لنا قدرات وتحالفات سياسية تعنينا، وسرعان ما تصير المهادنة استسلاما بغير قيد او شرط.
يكفي ان ننظر الى خريطة الدم المقدس الذي غطى ويغطي وجه فلسطين ونقرأ عليها وقائع يومنا، ونستشرف من خلالها آفاق مستقبلنا:
كلنا نعرف ان الانتفاضة جاءت رد فعل على استفزاز مباشر تمثل في اقتحام السفاح شارون، وكان في صفوف المعارضة داخل الكيان الاسرائيلي آنذاك، لحرم المسجد الاقصى. هذا اذا اعتمدنا توقيت لحظة الانفجار لا أسبابه التي لا تحصى والنابعة أصلا من الاحتلال الاستيطاني ومن الاضطهاد العنصري ومن إنكار حق الفلسطيني بالقليل القليل من أرضه، وبدولة لن تكون مهما بلغ التفاؤل أكثر من محمية مسترهنة الادارة والقرار.
كانت انتفاضة عفوية، شعبية، سلمية، في مواجهة ما يشبه الاجتياح المسلح مرتين، بالعنصرية وبالسلاح، لأولى القبلتين وثالث الحرمين… وكان الرد دمويا.
ولقد اختارت أنظمة العجز العربية ان تهرول الى المساومة مع باراك تحت شعار منع شارون من الوصول الى السلطة… فلا كسبت، بطبيعة الحال، عرفان جنرال الاغتيال في فردان، ولا هي ضمنت له الفوز في مواجهة خصمه الذي يفوقه دموية وشراسة بشهادة صبرا وشاتيلا، ولا هي منعت الثاني من استنهاض التطرف في المجتمع الصهيوني العنصري بحيث أوصله الى السلطة بطلا لاستكمال »حرب الاستقلال«، كما يرونها في اسرائيل.
ومع تصاعد العنف الاسرائيلي في مواجهة الانتفاضة الشعبية الفلسطينية، كانت أنظمة العجز العربية تواصل التراجع، وكانت السلطة الفلسطينية تتردى في مهاوي المساومة، فتتذبذب مواقفها طلبا للرضى الاميركي السامي، متوهمة أنها ستكسب في واشنطن ما تخسره على الارض في فلسطين.
بالمقابل كانت اسرائيل شارون تنجح، يوما بعد يوم، في استيلاد التماهي الكامل مع واشنطن ما بعد 11 أيلول، لتقدم نفسها بصورة الضحية الثانية للارهاب الدولي ذاته، العربي أساسا والاسلامي بعامة.
لم يكن الفلسطيني يملك من السلاح الا دمه، وقد فجّره في عدوه ذي القوة العسكرية الجبارة. ولم يكن يملك ترف الاختيار والتمييز بين مدني وعسكري في مجتمع من طبيعة عسكرية، فالمستعمر »المدني« فيه أكثر وحشية من الجندي، وحرس الحدود المموه بملامح عربية أشد شراسة من فرق النخبة في القوات الخاصة الاسرائيلية.
ثم ان هذا الفلسطيني كان يشهد بأم عينه هدم بيته الفقير بالجرافات، وتجريف أرضه، وتدمير دكانته او ورشته، وتخريب مرافق سلطته الهشة بعد… ويفرض عليه يوميا ان ينتقل من موكب تشييع الى آخر مودعا رفاق صباه وشركاءه في أحلامه بوطن ودولة ولو على جزء من أرضه الطبيعية.
كان الحصار يشتد فيزداد عزلة هذا الفلسطيني الصامد، لان أنظمة العجز العربية كانت مشغولة عن نجدته بالمساومة على استنقاذ السلطة وهي وليدتها وشريكتها ، ولو ذهب ما تبقى من فلسطين.
صحيح ان الجماهير العربية قد اندفعت بغضبها الى الشارع فاحتلته مجددا وبعد دهور من إخراجها منه، لكنها كانت تفتقر الى البرنامج السياسي والى القيادة المؤهلة والى القدرات التنظيمية والى الامكانات المادية اللازمة لإحداث الانقلاب المنشود…
وهكذا وبعد أيام من التظاهر والهتاف وإحراق أعلام العدو والمواجهة المحكومة بالفشل مع قوى القمع النظامية، كان اليأس قد هد المتظاهرين أكثر من التعب، فعادوا الى بيوتهم تتملكهم الحسرة من قصورهم ويحرقهم شعورهم بالقهر لعجزهم عن نجدة اخوتهم القريبين منهم، كأنما على طرف اليد، والممنوعين من الوصول اليهم بأي مدد، ولو ببعض الماء يروي عطشهم او يغسل جراحهم.
ان ما حدث في فلسطين ولها هو في حجم هزيمة عربية جديدة، لعلها بما سيترتب عليها من نتائج سياسية غدا الأكبر من نكبة 1948.
وهي ليست هزيمة لشعب فلسطين وحده، بل للشعوب العربية (والاسلامية) جميعا.
فأما أنظمة العجز العربية فلسوف توظف الهزيمة الجديدة في إطالة أمد تحكمها بشعوبها، لأنها تلبي مطلبا مضمرا وهو تحويل الهزيمة الى واقع سياسي مثبت باتفاقات الاذعان والاستسلام، بما يكفل تكبيل الاجيال الآتية، أي أنتم، بقيود تزيد من صعوبة الطريق أمامكم الى المستقبل الذي نتمناه لكم وتستحقونه.
لكأنما كتب علينا ان يكون كل جيل من أجيالنا، منذ 1948 وحتى اليوم، رهينة هزيمة ما ان يتمالك نفسه وقدراته للخروج من إسارها حتى تتواطأ عليه أنظمته مع عدوه فتفرض عليه هزيمة جديدة أقسى وأمرّ.
لكأن كلاً منا ضحية هزيمته هو التي ستلد هزيمة ابنه وهزيمة حفيده.
فبقدر ما تتقدم اسرائيل، على الصعد كافة، لا سيما العلمية والاقتصادية والتقنية ومن ثم العسكرية، تتراجع قدراتنا العربية في بلداننا كافة بدءا بصاحبة الدور الاخطر، مصر، ومرورا بجزائر المليون شهيد، وعراق المحارب نظامه مرتين على الجبهة الخطأ حتى ضيعه وضيعنا، وصولا الى الجزيرة والخليج التي عادت أقطارها جميعا الى عصر ما قبل الاستقلال، اذ ان أرضها محتلة عسكريا، ومواردها النفطية مصادرة، وقرارها مرتهن لدى السيد الاميركي.
يكاد يتوجب على جيلنا ان يعتذر من جيلكم عن تقصيرنا في أداء المهمات التي كانت مطلوبة منا. لقد كنا أصغر من أحلامنا. نعترف، لقد تهنا مع أوهامنا. نعترف، أغدقنا من عواطفنا على أبطال وهميين حتى تركناهم يغرقوننا في الخطأ، او اننا خفنا من المواجهة فلجأنا الى المهادنة او المساومة، او قبلنا بهذه او تلك، على افتراض ان ذلك قد يجنّبنا الاقتتال الداخلي، وكان ذلك خطأ… فخطر الاقتتال الداخلي في معظم الاقطار العربية، وفي الطليعة منها فلسطين، هو اليوم أشد ونتمنى الا يكون أقرب.
خفنا من فراغ الشارع فملأنا المقهى بالثرثرة والأحلام المكسورة.
خفنا من الحاكم الظالم فداريناه حتى طغى وتجبر فانزوينا داخل قوقعة رعبنا ننافقه علناً، وقد نعمل في خدمته، ونلعنه سراً. واللعنة لا تغير واقعا مخزيا، بل التغيير بالعمل والمواجهة.
خفنا من رجل الدين الجاهل فتركناه يأخذنا الى التعصب والى كره أخينا، أي كره الذات، وسكتنا عن الضلالة والشعوذة مع وعينا بأنها ليست من الدين في شيء، بكينا ولطمنا ولعنّا أهل الماضي أكثر مما تنبّهنا الى أعداء حاضرنا ومستقبلنا.
خلطنا الدين بالسياسة بما يلغيهما معا حتى غدونا بلا دين ولا دنيا.
وضعنا السياسة حيث لا مكان الا للدين، وحمّلنا الدين أوزار السياسة حتى كادت تنطفئ جذوة الايمان فينا، حين تبدى وكأن الهزيمة قد لحقت بالدين ذاته.
سادت بدع وادعاءات وأنماط من الزندقة باسم الاسلام حتى كاد يضيع مفهوم الدين الحنيف، وصار الاسلام إسلامات، فصّل كل حاكم إسلاما على مقاسه ومزاجه، وجعله سورا يحميه من المؤمنين الحق يضلهم به ويأخذهم الى عدوهم مستسلمين.
هذه بعض جوانب من صورة الواقع، لكنها ليست وحدها الحقيقة.
فللصورة جوانب اخرى مشرقة مثل وجوهكم الفتية، مثل عيونكم المنفتحة على ثورة علمية لعلها الأروع في تاريخ البشرية.
فجيلكم هو جيل المقاومة والبطولة، في لبنان وفي فلسطين وفي الاقطار الاخرى حيث اندفع اخوتكم وأقرانكم كطوفان الغضب في الشوارع التي كان القمع قد أقفرها، يرفعون الصوت بالاعتراض ويعلنون انهم قادمون، وان طريقهم الى مواجهة عدوهم لا بد ان تمر بقصور حكامهم.
وجيلكم هو جيل العلم والكفاءة، ولحظنا فلسوف تكونون أعظم أهلية منا. لسوف تفهمون عصركم أكثر مما فهمنا عصرنا.
وجيلكم هو جيل الوعي الذي يساعده عقله ومعرفة بحقائق دنياه على ربط الايمان بالقضية الوطنية والمسألة الاجتماعية. وربط تحرير أرضه بضرورة التحرر من حكمه الظالم.
وعلى صعيد لبنان فلقد أسهم جيلنا في حل الاشكال مع الدولة. لم نعد غرباء فيها، ولم نعد ننظر اليها كدولة معادية. فليست هي الدولة الكافرة، ولسنا خارجها بالعداء. انها دولتنا ولو مختلة التوازنات ونحن معنيون بإصلاح الخطأ فيها.
ثم انكم تباشرون من حيث انتهينا: لا فصل ولا انفصال بين قضية التحرير وقضية الديموقراطية. لا فصل ولا انفصال بين العدالة الاجتماعية والتقدم والازدهار الاقتصادي.
يقول الإمام علي بن ابي طالب (كرم الله وجهه): لكل شيء طريق، وطريق الجنة العلم.
تمكن الاضافة ببساطة »وطريق الدنيا ايضا هو العلم«.
والحمد لله ان قد تيسر لكم في هذا الصرح فرصة ممتازة لان تنهلوا العلم والمعرفة بالدنيا، كما بالدين، ولان تنشأوا في مناخ مميز لا يحرّم الحلال ولا يحلل الحرام، لا يشغلكم بالدين عن دنياكم ولا يصرفكم بالدنيا عن دينكم.
والحمد لله قد منّ عليكم، وعلينا، بعالم منارة ينشر الوعي مع الايمان، ويعزز الثقة بالنفس وبالقدرة على الانجاز، من خلال تعميقه الايمان بالله مع تثبيت ايمان الانسان بنفسه.
ان الدور التاريخي الذي لعبه ويلعبه السيد محمد حسين فضل الله أخطر مما نقدر وتقدرون.
لقد أعاد فتح باب الاجتهاد على مصراعيه، فأسقط الكثير من البدع بشجاعة نادرة، وأحلّ العقل محل الخرافة، وتصدى بشجاعة لكثير من ضروب التجارة باسم الدين، وأعاد الوصل بين الدين والسياسة على قاعدة ثابتة وصحيحة هي مصلحة الناس.
انه القائد والقدوة معا. انه مرجع في الدين والدنيا. فليحفظه الله.
وأختم بأن أتمنى لكم مستقبلا أفضل تستحقونه بقدر ما تبذلون من جهد من أجل بلوغه.
إنكم جيل مؤهل للنصر، فلا تكرهون آباءكم بذريعة أنهم قصّروا وأحالوا عليكم أثقالهم التي لم ينهضوا بها.
لقد حاولنا وما زلنا الى جانبكم نحاول، لكن من حظكم أنكم تبدأون وكل شيء من أمور دينكم ودنياكم مكشوف جلي وواضح: العدو باسمه الصريح، وكذلك المتواطئ والمتخاذل والنبي الدجال.
أما البطل فهو واحد مثلكم، وكلكم مؤهلون لتكونوه.
(نص محاضرة ألقيت في ندوة جمعية المبرات الخيرية في 10 أيار 2002).