جمعتني بزملاء أوروبيين أمسية احتل الموضوع التركي النصيب الأكبر في نقاشات امتدت لساعات. كان عزمنا قد انعقد على تخصيص وقتا كافيا للاحتفال بالرأي والتحليل ببلوغ الرئيس دونالد ترامب اليوم المائة في عهد قد يمتد لأربعة أعوام أو ثمانية أو ينقطع بعد أسابيع. فكرنا أيضا في أن قرار رئيسة وزراء بريطانيا اجراء انتخابات مبكرة يستحق المناقشة خاصة وأن الاتحاد الأوروبي شمر بالفعل عن سواعده استعدادا لجولة مفاوضات عنيفة مع بريطانيا حول شروط انسحابها من الاتحاد. كذلك كان فرضا واختيارا في آن مناقشة التطورات الجديدة في معركة انتخابات الرئاسة الفرنسية. هذه انتخابات مختلفة، أقل ما يقال فيها إنها ليست مملة كمعظم سابقاتها، وأهم ما يقال فيها إنها الانتخابات التي قد تكون نتيجتها تصدع منطقة اليورو وانتشاء الرئيسين فلاديمير بوتين ودونالد ترامب وخيبة أمل المستشارة آنجيلا ميركيل.
***
فور الإعلان عن نتيجة الاستفتاء الذي منح رجب الطيب إردوغان سلطات استثنائية لم يتمتع بها حاكم تركي منذ قرن توجه الرئيس التركي ليضع باقة من الزهور على ضريح السلطان محمد الثاني مؤسس الامبراطورية العثمانية وفاتح القسطنطينية. لم يتوجه إلى ضريح أتاتورك كما جرت العادة خلال القرن الفائت. قضت العادة أن تكون الزهور من نصيب ضريح كمال أتاتورك ولا أحد غيره سواء جاء قبله أو جاء بعده. كثيرون لاحظوا وتوقفوا عند هذا الحدث. فبكل أعراف تركيا هو انقلاب على أتاتورك، بل هو الانقلاب على كل ما يمثله أتاتورك، انقلاب على النظام العلماني، وعلى هيمنة المؤسسة العسكرية، وعلى مفهوم الدولة القائمة على مبدأ توازن السلطات. أكثر وأهم من كل هذا هو انقلاب على منظومة السياسة الخارجية التركية. قيل في الأمسية نقلا عما قيل في مراكز البحث الأوروبية إن قليلين جدا في عواصم الغرب اهتموا كثيرا بالمأساة التي تعيشها الديموقراطية التركية، فالمأساة واقعة في دول أخرى عديدة، أزمة الديموقراطية والحقوق تستفحل ولا سبيل في اللحظة الراهنة لوقف انتشارها.
يقول باحثون وسياسيون في أوروبا أن العجز الديموقراطي الراهن في التجربة التركية لا يشغل بالهم كثيرا. ما يشغل بالهم هو ما يعنيه هذا الانقلاب الذي قام به أردوجان في السياسة الخارجية التركية. الصلاة على قبر السلطان محمد يفسرها خبراء أوروبيون بأنها إشارة عن استعداد النظام الجديد في تركيا لإعادة الاعتبار إلى الإمبراطورية العثمانية وسحب بعض الاعتبار من النظام الجمهوري الذي ابتدعه أتاتورك ونفذه وسارت عليه حكومات القرن الأخير. الأتاتوركية كانت تعني حسب أحد معانيها نهاية المغامرات التوسعية الامبراطورية، وتمجيد ذكرى السلطان محمد الثاني يعني العودة إلى المغامرات التوسعية الاسلامية. في هذه الحالة يجب على أوروبا أن تتوقع نشاطا توسعيا تركيا في الشرق الأوسط وبخاصة في الأقاليم التي خضعت للخلافة العثمانية قبل قرون، عليها أيضا ألا تستبعد نشاطا مماثلا في أقاليم أوروبية خضعت في سابق الأيام لسلطة إسلامية.
***
تبدو التطورات التركية الأخيرة كشريط سينمائي سبق أن عرضه أحد أهم مفكري العثمانية الجديدة وهو أحمد داوود أوغلو الذي شغل لفترة منصب وزير الخارجية ثم كلل رئيسا للحكومة. لا شك عندي وعند آخرين تابعوا صعود وهبوط أحمد داوود أوغلو في أن مشروع العثمانية الجديدة واجه عقبات شديدة أحبطت القائمين على تنفيذه، والآن يعاد بعثه. لم تزل العقبات قائمة، فالحرب في سوريا كما حال الفوضى الناشبة في كافة أرجاء العالم العربي ما تزالان ناشبتين، إلا أنهما، من وجهة نظر التحالف الروسي التركي، تقتربان من مرحلة جديدة مختلفة كلية عن كل المراحل السابقة.
***
الأوروبيون قلقون. أقلقتهم قلقا شديدا ثورة الغضب التي فجرها إردوغان ضد كل من هولندا وألمانيا. كان واضحا أنه أعد لها منذ شهور، وبخاصة منذ احتجاجه العنيف على برنامج بثته إذاعة ألمانية تضمن سخرية لاذعة لشخصه. توجد شكوك متناثرة في أنحاء القارة تلمح إلى أنه افتعل هذه الأزمات ليستبق حملة أوروبية مؤكدة تعترض على انقلابه على الديموقراطية ونيته الاستمرار في اعتقال خصومه وتقييد الحريات وبخاصة حرية التعبير وإغلاق صحف واذاعات. أراد توصيل رسالة مفادها أن عملية “خروج تركيا أو إخراجها” من أوروبا لن تكون معركة بسيطة. يكفي أن يتذكر أصحاب القرار في بروكسل أو غيرها من عواصم أوروبا أن تركيا لن تتسامح مع حرمانها الحصول مسبقا على الضمانات الضرورية لملايين الأوروبيين من أصل تركي، وبالأحري من أصول إسلامية، في حال رفض الاتحاد بشكل نهائي ضم تركيا إلى الاتحاد. هؤلاء ليسوا مهاجرين أو لاجئين أو مجرد أرقام في إحصاءات، هؤلاء في نظر جماعة إردوجان هم “تركيا الأوروبية” أو بتعبير أكثر دقة هم “تركيا في أوروبا”.
***
ثار سؤال عن أيهما أكثر إزعاجا للغرب، مصير علاقة تركيا بأوروبا أم مصير علاقتها بحلف الناتو. دار نقاش طويل غلب فيه الرأي القائل بأن علاقة تركيا بالحلف تمر في أشد مراحلها تعقيدا. يكفي القول بأن هناك بين قادة الحلف من يعتقد أنه بعد التقدم الكبير الذي تحقق في العلاقات بين روسيا وتركيا في الشهور الأخيرة أصبح من واجب الحلف أن يجيب على السؤال التالي، أيهما أخطر على الحلف بقاء تركيا فيه أم خروجها منه. الرأي الغالب يميل إلى أن خروج تركيا من الحلف قد يعني في النهاية تسليم البحر المتوسط والشرق الأوسط كله إلى روسيا. صحيح أن معلومات كثيرة عن الأسلحة والتكنولوجيا العسكرية الغربية وخطط الحلف ستكون مفتوحة لاطلاع الروس، وصحيح أن الروس قد يحصلون قريبا على حق إقامة قاعدة بحرية في ميناء مرسين، وصحيح أن التعاون العسكري والاقتصادي والمالي بين البلدين يتدعم يوما بعد يوم ولكن يبقي صحيحا دائما أن استمرار الوجود الغربي على أراضي قريبة من حدود روسيا أمرا يتصدر جميع اهتمامات الحلف.
***
سمعت من قال إن استمرار تركيا عضوا في الناتو بينما علاقاتها الاستراتيجية بروسيا تزداد رسوخا يجعلها عرضة للشك في اخلاصها للحلف. يستطيع الرئيس “الداهية” فلاديمير بوتين في هذه الحالة استخدام تركيا حصان طروادة في سباق القوة الراهن بين الغرب وروسيا. من ناحية أخرى هناك في الغرب من يزعم أن الناتو يستطيع هو الآخر استخدام تركيا لنفس الغرض. لاحظنا أنه في كل الأحوال لا يوجد ما يؤكد أن المؤسسة العسكرية التركية بحالتها الراهنة لديها القدرة على استيعاب التغيير في العقيدة العسكرية الذي يستلزمه تغيير مصادر السلاح والاستراتيجية التوسعية للرئيس التركي. لاحظنا في الوقت نفسه أن روسيا البوتينية استثمرت الكثير جدا في سبيل تحقيق هذا التحول الخطير في السياسة الخارجية التركية، ولمعرفتنا بأسلوب عمل الرئيس بوتين وشراسة انتقامه وقسوة ضغوطه أجمعنا على أنه لن يسمح لتركيا بأن تخون تحالفها معه. لا شك عندي أنا شخصيا في أن حجب السياح الروس عن شواطئ غرب الأناضول كان درسا “قاتلا” لمن يفكر من أنقرة في التلاعب أو النكوص.
***
الغرب مثقل بهموم الارتباك المخيف في واشنطن حول إعادة ترتيب أولويات البيت الأبيض في السياسة الخارجية، وهموم تداعيات البريكسيت ومنها تهديد الوحدة البريطانية وتوترات الحملات الانتخابية، وهموم حرب الإرهاب وعلاقات الشك بين أمريكا والاتحاد الأوروبي من جهة وبين الدول الأوروبية وبعضها البعض من جهة أخرى، وهموم الزحف العالمي ضد الديموقراطية ورموزها ومؤسساتها، هذا الغرب المثقل بكل هذه الهموم سوف يواجه صعوبة حقيقية في وقف توسع روسيا الجرئ في الشرق الأوسط ووسط آسيا مستعينة بتركيا أو متحالفة معها.
ينشر بالتزامن مع جريدة الشروق