“ آه، أيها القدر الغادر، لماذا فعلت بنا هكذا؟!
“ لماذا عبثت بمصيرنا؟!
“ وتركت أبناءنا في مهب الريح،
“ فحطمت أصدقاءنا،
“ وجعلت الأعداء يفرحون لمرآنا…”.
لم يستشهد نزار أغري بهذه الأغنية الكردية الحزينة، عبثاً، في كتابه ”كاكا والجدار الأكراد بين منازلة الجدران وتفيئها”… فالصفحات الثلاثمئة والعشرون التي كتبها ليست أكثر من تفصيل ”بالتطريب” الأوركسترالي لهذا النغم الحزين.
“لم يعايش الأكراد عدواً من أمامهم وبحراً من ورائهم، بل اصطدموا بجدران صلبة من القسوة والاستعلاء والإنكار. جدار من أمامهم وجدار من ورائهم، جدار على يمينهم وجدار على يسارهم، جدران هائلة من البطش أقيمت لتخنق أصواتهم وتقتل أحلامهم.
… لقد نُبذ الأكراد وأنزلوا من قطار الحرية، واستمر استضعافهم واستعبادهم، ولكن ليس على أيدي الاستعمار الخارجي، (الغربي)، بل على أيدي الاستعمار (الإقليمي)، (الشرقي)، كذلك أصبح الأكراد مُستعمَري المستعمرين..”.
في عناوين الفصول ما يشرح مضمون الكتاب كله، ومنها: جدار الجدران سوء تساكن مزمن. إلى متى: كلنا أخوة، كلنا عرب؟. الحدود الحلال والحدود الحرام؟ لا لغة حوار حية سوى الموت؟! تركيا تنزف حمامة وأكراداً؟ سياسة الحجل عندما أراد الكردي أن يثبت دهاءه.. ذبح أخاه. الأكراد فلسطينيو العرب الأكراد والمصافحة المشتهاة (الاتفاق الإسرائيلي الفلسطيني في عين كردية..).
ومع أن العناوين ناضحة بمضمون هذه المطالعة ضد الكرد والعرب والفرس والأتراك (ناهيك بالخارجي الأجنبي) التي كتبها”كاكا“ نزار أغري (وكاكا بالكردية تعني الأخ)، فلا بد لاستيفاء المعنى من أن نستشهد بهذه البكائية التي تفوح ”عنصرية”، والتي جاءت خاتمة للكتاب:
“الميدان الوحيد الذي أراد الأكراد أن يتفوقوا فيه على أعدائهم ويثبتوا فيه جدارتهم بحقوقهم هو ميدان الموت. لقد تركوا كل شيء وراءهم وراحوا يتسابقون للسقوط عند جدار همجية الأعداء الصلب.
ولهؤلاء لم يكن الموت الكردي مشكلة تتطلب الحل، بل ذريعة للمزيد من الفتك بالأكراد. بدا الأمر كأنه لعبة مسلية. حقاً كان شكلاً من العبث بأرواح الشعب الكردي الذي كانت قياداته تفرّط بها وتسترخصها لإثبات ”عدالة القضية”. وهكذا تشكلت حلقة جهنمية: القوى المهيمنة تقتل الأكراد لأنها تعتبرهم خطرين على ”الأمة” و”وحدة الوطن” و”سلامة الدولة”، والقيادات الكردية توفر المادة اللازمة لذلك لأنها لا تجيد سوى (سياسة) الموت. (ألم يكن اسم المقاتلين الأكراد هو البيشمركه، أي الذاهبون إلى الموت؟).
… هل يبقى الشعار القائل ”كردستان يان غان أي كردستان أو الغناء، مشروع الأكراد للألف المقبل”؟!
ومع الاحترام لكل أحزان كاكا نزار أغري، ولكل مواجع الأكراد في كل مكان وزمان، فإن الكتاب كله عبارة عن صرخة ألم وخيبة ومرارة وانكسار. تضيع فيها الدلالات السياسية وتختلط الأحقاد بالوقائع، والمراجعة النقدية باللوم الدائم للآخر، حيث يفقد القارئ طريقه إلى تمثل حل سوي للقضية الكردية.
ومن الصعب التسليم بما استخلصه نزار أغري من الاتفاق الفلسطيني الإسرائيلي:
“ إذا كان من شيء يؤسِّس له الاتفاق الجديد فهو هذا: الوضوح. فالوضوح كان مصادراً بل مغتالاً على يد الظلام المتولد في معمعان المعركة المقدسة.. الوهمية. وكان مؤكداً أن المعركة مقولة منتفخة، وأنها ذريعة للدم المباح والحرية المفقودة والاقتصاد المدمر والعقل المقيّد. وكانت أيضاً أساس السيكولوجية المشوهة: سيكولوجية تهلل لـ”حقنا“ وتلعن حقوق الآخرين. كل ذلك معطوفاً على قيم أقرب إلى البدائية والاحتفال الغريزي بالذات.
“ … شكلت المسألة الفلسطينية الوجه السلبي لصورة الواقع الشرق أوسطي، ونقطة التقاء الحدود القصوى وتربة نمو جميع الأعشاب الضارة… تحت غبارها كانت تطمس الحقائق الأخرى، وكانت المعطيات جميعها تؤطر وتقاس على خلفية تلك الصورة، وكانت المسألة الكردية الفريق الذي دفع باهظاً ثمن الخديعة القاتلة”.
ومع التسليم بأن كثيراً من ”الجرائم” قد ارتكبتها أنظمة القمع باسم التحرير، والاستسلام بذريعة الهزيمة، فمن الصعب الموافقة على المقارنة ليس بين الفلسطينيين والأكراد بل بين سائر العرب وإسرائيل، وبالتالي من الصعب تمثل الحل في ”المصافحة المشتهاة” وكأن الأكراد هم أهل البلاد الأصليون والعرب (عراقيين وسوريين) وافدون من الخارج، ومدعومون من الخارج، وعاملون للخارج الذي يرعى مشروعهم بوصفه مشروعه أصيلاً.
أما الإيرانيون والأتراك فلهم من يدافع عنهم.
لعل الوجع قد ذهب بقلم نزار بعيداً، فأضاع الحدود هو الآخر… على الطريقة الكردية!
وهذا ظلم شديد يا كاكا، حتى لو كانت إسرائيل منتصرة علينا جميعاً، وضمننا الأكراد، اليوم.