أفترض اهل الذهب الاسود أن الوقت قد حان ليتقدموا إلى موقع القيادة معززين بادعاء ملكيتهم الحصرية للدين الحنيف وفوائض النفط التي تجعلهم اغنى اهل الارض، ومصدر الاعانات والمساعدات، قروضاً او هبات أو “شرهات”، قبل أن يندفعوا، مؤخراً، إلى الشراكة في مشاريع مربحة سياسياً ومن ثم مادياً.
وافترضوا أن التسفيه الممنهج للدعوة إلى العروبة والقومية والوحدة قد أضعف هذه الاحلام السنية، وانه بات من السهل القضاء عليها بسيف الدين الحنيف الذي نزلت رسالته في ارضهم فبات من حقهم أن يدعوا انهم الوكلاء الحصريون.
هكذا باشروا “الانفصال” عن الركب العربي، ليستقلوا بشؤونهم كأهل نفط يفصلهم خندق من الذهب الاسود (او الابيض، حتى لا ننسى الغاز في قطر)، عن اشقائهم الفقراء.
قالوا لسائر العرب في البدايات: نحن أهل نسب وقربى، لكننا غيركم… لستم منا تماماً، ولسنا منكم تماماً. قد نتفق احيانا وقد تفرق بيننا المصالح في احيان أخرى. قد يكون لكم رأي ولنا رأي آخر، فان اتفقنا فعلى بركة الله، وان اختلفنا يذهب كل في طريقه..
بعد حين أنشأ أهل النفط مجلس التعاون بين اقطار الخليج. وخافوا من استفزاز إيران أن هم اشاروا إلى الهوية العربية فاكتفوا بالإشارة إلى أن هذه الدول “عربية” اما الخليج فمجهول الهوية حتى اشعار آخر.
لا داعي للإشارة إلى أن الرعاية الاميركية أساسا، والبريطانية ضمنها، كانت تشجع دول الخليج على هذا الانفصال عن المحيط العربي.. ولعل التجربة المرة للملك الراحل فيصل بن عبد العزيز قد ردعتهم عن التورط، والعودة إلى التفكير ـ مجرد التفكير ـ باستخدام سلاح النفط في الصراع العربي الاسرائيلي.. بل لعل تلك التجربة قد علمتهم أن “يستقلوا” بثروتهم الطائلة عن الاشقاء الفقراء، أقله سياسياً. فاذا ما ارادوا شراء سكوتهم قدموا اليهم بعض الفتات كمساعدة او اعانة او تحت باب الاحسان واسترضاء العزة الالهية.
مع الأيام، تعاظمت الثروة، وتعاظم فقر الاشقاء العرب فتعاظمت حاجتهم.. لكن اهل النفط كانوا قد بنوا سوراً عالياً من حول اقطارهم الغنية، وافادوا من التحصين الغربي لهذه الثروة، فزادوا من ابتعادهم عن اهلهم الفقراء الذين باتت قرابتهم مربوطة بالولاء: لقد انتهت زعامة مصر بضربة الفقر القاضية، وذهب صدام حسين بمغامراته بالعراق العظيم، وها هي سوريا تغرق في دماء اهلها بالحرب فيها وعليها، واما الجزائر فقد انسحبت تماماً من الميدان العربي… أما لبنان فيسهل تدبر امره.
هكذا تم تفتيت العرب، لأسباب متعددة، وبقيت دول الخليج كتلة واحدة، برغم الخلافات التي كانت تهز تضامنها بين الحين والآخر، ثم يتم التغلب عليها.. فالذهب حلّال المشاكل في كل زمان ومكان..
والازمة الاخيرة التي تفجرت عنيفة بين السعودية وقطر، في اعقاب القمم الثلاث في الرياض، تحت رعاية الرئيس الاميركي دونالد ترامب، وجدت على الفور من يعمل على حصرها ومنع تفاقمها وانتقالها من وسائل الاعلام إلى دوائر الحكم، ومن ثم إلى الشارع بكل احتمالاتها المفتوحة… وهكذا تقدمت الكويت، الجاهزة دوماً لدور الوسيط، فأوفدت وزير خارجيتها ليدعو امير قطر الذي استفز السعودية بادعائه انه من نسل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، مؤسس الحركة الوهابية التي قامت عليها المملكة بحد السيف.. وجاء أمير قطر إلى الكويت تمهيداً لان تتوسط فتغفر له السعودية هذا الادعاء وتقبل توبته.. على أن يقطع مع الاخوان المسلمين، واستطراداً مع “حماس”، واساسا مع “حزب الله” في لبنان، قفزاً من فوق دور هذا الحزب المجاهد في اجلاء العدو الاسرائيلي عن ارض لبنان، بعد احتلال قسم كبير من ارضه في الجنوب وبعض البقاع وبعض الجبل في العام 2000، ثم في هزيمة الحرب الاسرائيلية على لبنان في صيف العام 2006.
هذا دليل جديد على أن حكام الجزيرة والخليج يرون انهم “امة تامة” لا علاقة لهم بسائر العرب الفقراء.. والطامعين بثرواتهم، والذين يحسدونهم على الخير الذي انعم به الله عليهم من دون خلقه.. بمن في ذلك “الاشقاء العرب”.
بعد زيارة ترامب التي كلفت السعودية ثلاثمائة مليار دولار، عدا اربعين مليار آخر “تقدمها” المملكة هدية لضيفها الكبير من اجل استكمال البنية التحتية في بلاده الغنية، ما عدا الأربعماية مليون دولار التي قدمت لابنة ترامب الدلوعة من اجل مشاريع الرعاية التي تقوم بها في بلادها..
بعد زيارة ترامب هذه، وفي محاولة للإيحاء باعتماد “سياسة التوازن” قام ولي ولي العهد الامير محمد بن سلمان، بصفته وزيراً للدفاع، بزيارة روسيا والتقى الرئيس الروسي بوتين في قصر الكرملين بموسكو، لتوطيد العلاقة مع هذا القيصر… وهو لم يمانع بطرح موضوع الحرب في سوريا وعليها على جدول اعمال زيارته، خصوصاً وانه في خصام مع قطر التي تتكفل بدعم الاخوان المسلمين والعديد من “المنظمات الجهادية” المتفرعة عن “الاخوان” في سوريا بالمال والسلاح..
لكأنما السعودية، بجيلها الشاب، تحاول التحضير لان تلعب دولارا محوريا، اقله في الجزيرة والخليج، على أن يشمل اليمن بالتأكيد.. خصوصاً وان السعودية تقاتل اليمنيين منذ سنتين ونيف، فتهدم عمرانها، وتقتل رجالها، وآخر انجازات هذه الحرب الظالمة تفشي مرض الكوليرا الفتاك في انحاء هذه البلاد ذات التاريخ، والذي يهدد حياة عشرات الآلاف، وربما صار العدد بمئات الآلاف، بسبب من نقص العلاج وانعدام المستشفيات وغياب الاطباء الخ..
وملفت أن تكون السعودية قد بدأت تغيب عن المشهد العراقي، كما أن وجودها او دورها في الحرب على سوريا وفيها إلى تناقص.. بل أن دورها في لبنان يكاد الآن أن يكون “رمزياً” والمولج به قائم بالأعمال، يصول ويجول في مختلف انحاء لبنان، ولكن في غياب القدرات التي تمكنه من الفعل، لان خزائنه تشكو النقص والمطلوب كثير كثير.. في حين رئيس حكومة لبنان، سعد الحريري، الذي دخل الحياة السياسية وريثاً لوالده المغدور رفيق الحريري، يشكو هم الاملاق، بعدما وضعت المملكة يدها على “شركة اوجيه” التي كان قد ورثها عن ابيه الراحل، والتي كانت المتعهد الاكبر في المملكة بعد شركة بن لادن، الذي صودرت شركته الكبرى هو الاخر، وهو ينتظر الآن، مع سعد الحريري التعويض المجزي..
*****
لا ينتظر أن يعمر “التحالف” الذي اقيم على عجل، بل في غمضة عين، فجمع في المملكة وتحت رايتها، ولمناسبة زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، نحو خمسين دولة عربية وإسلامية..
فليس في الافق ما يوحي بقدرة عملية على الزام كل هذه الدول (50 دولة) بالانخراط في حلف مهمته الأولى والاساسية مجابهة “التوسع الايراني” الذي يتمدد من العراق إلى سوريا فلبنان، والذي يمول ويسلح اليمنيين ليقاتلوا ضد الغزو السعودي لبلادهم..
لا يتصل الامر بأهلية السعودية او نقص اهليتها على القيادة، بل لان العرب اجمالاً، ما يزالون ينظرون إلى اسرائيل على انها العدو الاول بتوحدهم إن لم يكن على قتالها فعلى الاقل من اجل استنقاذ الاقل من الأقل من حقوق الفلسطينيين في بلادهم وإقامة “دولتهم” على بعض البعض من ارضهم التي كانت عبر التاريخ أرضهم..
واذا كانت المجاهرة بعداء إيران تجمع معظم الخليجيين (ما عدا قطر، والى حد كبير الكويت)، فان هذا “العداء” لا يستنفر سائر العرب، من العراق إلى سوريا ولبنان، وحتى مصر والسودان والجزائر الخ..
في أي حال، فقد حقق الرئيس الاميركي دونالد ترامب مأربه.. وهو كان استبق زيارته إلى السعودية بتوجيه سلسلة من الشتائم والاهانات المباشرة إلى “البدو الذين ينفقون الثروات على مباذلهم.. ونحن سنجعلهم يدفعون لنا ثمن حمايتهم، ولكننا لن نفعل ذلك مجانا، وعليهم أن يدفعوا المليارات التي لم يتعبوا فيها، فنحن اولى بها منهم”!
أما الحرب الظالمة التي تدمر العراق، فلتستمر، واما الحرب على سوريا وفيها فلتستمر، واما الحرب الجانية على اليمن فلتستمر…
الحليف الاعظم، والحامي الاكبر، دونالد ترامب، الذي استبق زيارة المملكة بسلسلة من الاهانات الجارحة لنظامها، والذي غادرها مباشرة ليطمئن العدو الاسرائيلي إلى أن له حصته الوازنة من الهدايا السعودية، والذي اشتبك في صقلية مع اوروبا بعنوان قيادتها الالمانية.. يستحق مثل هذه الهدايا وأكثر. وليتقشف شعب المملكة لان الخزينة فارغة.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق