كنا في نيودلهي والجو في هذا الشهر خانق، هكذا هي شهور الصيف السابقة على موسم الأمطار والزوابع الرعدية. الجو الحار لم يكن جديدا بالنسبة لشاب نشأ في القاهرة. الجديد كان في قسوته وفي ظروفنا الخاصة.
كان العزم قد انعقد على التبكير في تنفيذ قرار صادر من القاهرة يكلفني الانتقال للعاصمة الصينية، المقر الجديد لعملي. الانتقال يعني أكثر من الجهد لحشو حقائب بملابس ومستلزمات ضرورية للحياة، ففي حالتنا، كان يعني جهد الانتقاء بين الضروري والضروري وبين ثقيل في الوزن وثقيل آخر. كانت في بيتنا هدايا حفل الزواج ما زالت في لفائفها لم نجد وقتا لفتحها. أكثرها، كما قدرنا، احتوت على مفروشات وأدوات كهربائية مشاركة من الأصدقاء في تأثيث بيت لعروسين. بعضه، كما حسبنا، كان مما غلا ثمنه وثقل حمله. أضف إلى ما سبق ما استجد من «أحمال» نتيجة توصل «حماتي» قبل السفر بيومين إلى ما ينبئ بأن ابنتها حامل. الآن أذكر بكل الوضوح الممكن منظرنا في المطار وسط عشرات المودعين من الدبلوماسيين العرب والأجانب ومسؤولين وأصدقاء هنود ونحن نستقبل أحضان وقبلات أكثرها مبلل بالدموع. لم أفهم الدوافع الحقيقية وراء هذا الفيض من الدموع إلا بعد وقت. كانت الدموع تعبيرا عن إشفاق ولوعة على ما ينتظر هذه العائلة الصغيرة المكونة من زوجة حامل في الثامنة عشرة وزوج في الثانية والعشرين والمحملة بأثقال تفوق قدرتهما على التحمل والمنطلقة في رحلة لا أطول منها نحو العيش في بلد لا أصعب منه ومستقبل هادر لا ملل فيه ولا استقرار.
كانت زيارة هونج كونج حلما تحقق. عرضوا في نيودلهي أن استخدم طريق موسكو في الرحلة من الهند إلى الصين. رفضت العرض ويبدو أنه كان فرصتي الوحيدة لزيارة موسكو وضاعت. كانت هونج كونج حلما وكانت أيضا ضرورة. تلقينا نصيحة قبل السفر بأن نشتري من هونج كونج «الزاد والزواد» اللازم لتخفيف مشقة الحياة في عاصمة جليدية في الشتاء جدباء في كل الفصول. ذهبت من القاهرة إلى الهند لا أحمل بذلة شتوية واحدة وكان لا بد من أن نستعد ـ زوجتي وأنا ـ لبكين بحمولة ملابس تناسب شتاءها القاسي وفترة الحمل وتغطي دورة عمل قد تستمر ثلاث سنوات على الأقل يولد فيها الجنين ويصير رضيعا ويكبر طفلا.
هناك، في هونج كونج، نسينا الوقت وبددنا مكافأة الانتقال وانبهرنا بكل صغيرة وكبيرة ومشيناها بجزئيها ليلا ونهارا متناسين أن هناك حملا في أيامه الأولى. وفي اليوم الرابع ركبنا قطارا نظيفا وأنيقا من جزيرة كاولوون وعند نهاية مشواره على الحدود في محطة شينزين صعد إلينا وفد من الصين الشعبية اصطحبنا مع أمتعتنا إلى قطار آخر لا يقل نظافة وإن أقل أناقة تنطلق من داخله ومن حوله الأناشيد الوطنية في صخب بالغ. قضينا ساعتين في القطار نشرب الشاي ولا نتحدث إلا قليلا احتراما للأناشيد وصلنا بعدهما إلى مدينة كانتون عاصمة الجنوب لنبيت الليلة استعدادا لرحلة الطائرة في اليوم التالي إلى بكين. لم نستطع النوم فالفندق يطل على نهر اشتهر منذ أيام الاستعمار الغربي باسم نهر اللؤلؤ، وهو الثالث طولا بين الأنهار الصينية. هذا النهر كغيره من أنهار الصين حياة لا تتوقف بل ولا تهدأ. أضف إلى صخب الأناشيد الوطنية صفارات البواخر والصناديل النهرية ومراكب الصيد والبيوت والدكاكين العائمة، لن أكون مبالغا إن قلت إنني قدرت عددها بالآلاف وليس بالعشرات أو المئات. ليلة أخرى لم نشبع فيها حاجتنا إلى النوم.
في الصباح الباكر أخذنا الوفد المرافق إلى المطار. رأيت الطائرة فقارنتها على الفور بطائرة إير أنديا السوبركونستيلليشن التي نقلتنا من كلكتا إلى هونج كونج مرورا ببانجكوك، حيث قضينا الليلة في صحبة أسراب من ناموس غليظ القلب ودؤوب وبارد الحس. على عكس الطائرة الهندية كانت طائرتنا الصينية صغيرة ربما بسعة عشرين راكبا. وبالفعل وجدناهم سبقونا إلى الطائرة تنفيذا لتعليمات من وفدنا المرافق الذي ودعنا على السلم ناقلا إلينا اطمئنانه إلى أن حقائبنا، التي فيها كل ما نملك، قد دخلت إلى بطن الطائرة.
بدأنا الرحلة إلى العاصمة بكين وبيننا مسافة ألفي كيلومتر. طرنا معظم الرحلة على ارتفاع منخفض أعلى قليلا من مستوى التلال المحيطة بأغلب المدن. انهكتنا كثرة الصعود والهبوط لتفادي قمم الجبال والتلال وللرسو في عديد المطارات المحلية. رسونا مرتين من أجل تقديم وجبة غذائية ومرات للاغتسال والراحة والتزود بالوقود. لا أنكر أن الطيار كان ودودا وكريما فكثيرا ما غادر قمرة القيادة ليوزع علينا تفاحا أو ليعيد ملء أكواب الشاي بالماء المغلي. بدأت أقلق حين لاحظت شحوبا في لون وجه رفيقة المشوار، واستمر القلق متصاعدا كلما شعرت بالعجز في التفاهم مع الطيار أو غيره حول شحوب يزداد وتعب يشتد.
وصلنا مطار بكين في نهاية الأمر لأجد في انتظاري شخصا برأس متدنٍ حتى الصدر، لم يرفع عيناه مرة واحدة، لا يحيينا بيد ممدودة وإنما بانحناءة ثم أخرى. لفت نظري ارتداؤه الزي الماوي الأزرق وحذاء من القماش وفي النهاية تحدث إلينا بصوت خفيض مقدما نفسه بصفته الموظف الإدارى بالسفارة المكلف باستقبالنا. وفي الطريق أبلغنا من موقعه بجانب السائق أن له في بكين ثلاثة أعوام ويقيم منفردا ومنعزلا في حي صيني وقد ترك مع زوجته بالقاهرة أبناءه الذكور الثلاثة وهم نابليون وماركوني وهتلر.
مرت علينا في الفندق أيام صعبة. كانت تكلفة الإقامة والانتقال بسيارة أجرة بين السفارة والفندق أكبر من أن يتحملها مرتب ملحق دبلوماسي. أشد القلق على كل حال كان بسبب تدهور صعوبات الحمل. لم نتأخر في تسجيل أنفسنا بالمستشفى العام القريب نوعا ما من الفندق. استقبلونا في الزيارة الأولى بكثير من الارتباك. احتاج الأمر لاتصال مع وزارة الخارجية لطلب تخصيص مترجم أو طبيب يتحدث الإنجليزية. استجابوا وبالفعل بدأنا نفهم ونقدر أبعاد ما نحن فيه وما يجب أن نتوقع. ستكون الشهور القادمة قاسية إذا لم تحصل السيدة الحامل على قسط وفير من الراحة. ولكن كيف تأتي الراحة في غرفة نوم ضيقة بسريرين وخزانة ملابس وما لا يقل عن ثماني حقائب سفر. أنا غائب بعض الوقت لأعمال بالسفارة كانت تنتظر الملحق الشاب الجديد وآلام الحمل تمنعنا من الابتعاد عن الفندق، فضلا عن أن زيارة مطعم كانت تستدعي الحجز المسبق والحجز المسبق تقوم به الخارجية الصينية.
استيقظت ذات فجر على صرخة ألم. بعد دقائق كنت أحمل زوجتي حتى المصعد ومن المصعد حتى مدخل الفندق. بالمصادفة لم يكن موظف الاستقبال المكلف بالسهر على دراية بلغة أجنبية غير الروسية. لم أشرح طويلا إذ كان منظرنا يشي بحالنا. تركنا الشاب عند باب الفندق وغاب في ظلام الشارع الدامس وعاد ومعه «ريكشو» كانت تبيت في ساحة الفندق الخلفية كما تبيت في عصرنا سيارات الأجرة في انتظار طارئ أو رحيل أحد النزلاء. تحملت المريضة حتى جلست في الريكشو بينما موظف الاستقبال يتفاهم مع السائق. لا محل لراكب آخر فكان واجبي أن أجرى وراء الريكشو بسرعة ساقي قائدها ذي الثمانين من العمر وربما أكثر من الثمانين. كاد نفسى ينقطع تحت تأثير ما دخنته من سجائر طول اليوم لولا أن ظهر في العتمة ضوء خافت ينبعث من مبنى قريب وكان كما تمنيت أن يكون، مبنى المستشفى.
أسبوع قضته زوجتي بالمستشفى أعقبه أسبوع في منزل السفير تحت إصرار السيدة حرمه، وبعدهما فاجأتنا وزارة الخارجية الصينية بتخصيص شقة واسعة بغرفتين للنوم وصالة كبيرة في مبنى الدبلوماسيين الأجانب متجاوزة قاعدة ترتيب الوصول. فاجأتنا أيضا بتكليف محال الأثاث المؤممة بتأثيث الشقة بأسعار متهاودة والإذن لمخازن حكومية بالإفراج عن قطع أثاث وزينة كانت صادرتها محاكم الحزب من ممتلكات إقطاعيين وأمراء حرب وبيعها لنا حسب الأسعار المقومة بها. بعض هذه القطع واللوحات لا تزال تزين شقتنا بحى المهندسين بالقاهرة، وأغلبها ما كان يمكن أن يأتي إلى حوزتنا لو لم يتسبب الجنين في الآلام ودواعي القلق خلال الفترة الأولى من حمله.
في اليوم السابع من شهر مارس تحقق الوعد. نقلتنا سيارات السفارة إلى المستشفى ذاتها التي شهدت أول زيارة قبل نحو سبعة أشهر واستقبلنا على بابها الطبيب الذي باشر العلاج من أول زيارة حتى قام بتوليدها. كانت الولادة شاقة برأى الطبيب. كنا جميعا في الانتظار، من السفير وحرمه إلى السيد عكوش الملحق الإداري.
هناك في قاعة الانتظار في مستشفى بكين أفتى نزار قباني أمام جميع الحضور من أعضاء السفارة بأنه إذا رزقنا بصبي فليكن اسمه سامر. وقد كان.
مر على هذه الفتوى النزارية القبانية ستون عاما هى عمر سامر، أعز الأصدقاء والابن الوفي والجراح الكبير. سامر الذي أجهدنا جنينا في بطن أمه وأنهكنا رضيعا في حضنها وأسقانا القلق والهلع مراهقا ثم أسعدنا رجلا وطبيبا متميزا وخطيبا مفوها وزوجا طيبا لامرأة محبة وصالحة ووالدا لشابين يافعين يبهجان قلب الناظر.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق