رفح ـ حلمي موسى
في اليوم الثاني والسبعين بعد المئة، وبرغم قرار مجلس الأمن الصادر أمس، يتواصل العدوان الوحشي على شعبنا. ولكننا على عهدنا باقون، وبأرضنا متمسكون، الى حين زوال الاحتلال وكسر العدوان.
***
اتخذ مجلس الأمن الدولي أمس قرارا بوقف فوري لإطلاق نار في قطاع غزة، بتأييد دولي كامل وامتناع الولايات المتحدة عن التصويت. وبرغم أن القرار في صيغته المقرّة لم يطالب بوقف دائم لإطلاق النار، وخلا من صيغة الإلزام باعتماده على البند السادس وليس السابع، وبقي قرارا تصريحيا، الا أنه اعتبر بالغ الأهمية، اذ جسّد إرادة دولية تطالب بوقف الحرب على غزة، على الأقل لأسباب انسانية.
وعلى الرغم من أن الصيغة المعتمدة نصت على وقف النار في شهر رمضان، الذي لم يتبق منه إلا أسبوعين، كما أنها تجنبت إدانة اسرائيل وجرائمها، إلّا أنه كان من الواضح أن المسؤولية عن الكارثة الإنسانية في القطاع تقع على عاتق اسرائيل.
وليس مضمونا أن تلتزم اسرائيل بالقرار، خصوصا أنها أعلنت أن لا شيء “يردعها عن مواصلة حربها من أجل تحقيق النصر المطلق” على “حماس”. الا أن عدم التزامها بالقرار يمكن أن يفتح عليها أبوابا واسعة من انتقادات سياسية وملاحقات قضائية خصوصا من المحكمة الجنائية الدولية. ويمكن لإسرائيل طوال الوقت التذرع بعدم افراج المقاومة عن المحتجزين الإسرائيليين، وهو ما نص عليه القرار، ما يسمح لها بمواصلة الحرب ولكن ربما بوتيرة مختلفة.
ويظهر القرار أن الاسرة الدولية لم تعد قادرة على مواصلة الصمت إزاء استمرار العدوان، وأنها لا تستطيع تحمل تبعاته. وإذا كان هذا هو الموقف الدولي عامة، ومن قبل صدور القرار، إلا إنه صار أشد إلحاحا بالنسبة للإدارة الأميركية التي واجهت ضغوطا شعبية داخلية، وأخرى دولية خارجية، رافضة لدعمها غير المشروط لإسرائيل ليس بالسلاح فقط وإنما أيضا في الرعاية السياسية للعدوان خصوصا في مجلس الأمن.
وسبق لواشنطن أن استخدمت حق النقض (الفيتو) أربع مرات لمنع قرارات تدعو لوقف النار. غير أن ابتعاد إسرائيل عن التجاوب مع الإرادة السياسية الأميركية في قضيتي المساعدات الإنسانية و”اليوم التالي” قاد البيت الأبيض هذه المرة للامتناع عن التصويت، ما فجر أزمة جديدة بين إدارة الرئيس جو بايدن وحكومة بنيامين نتنياهو، بالإضافة إلى تصعيد في الخلاف الداخلي الأميركي والخلاف الداخلي الإسرائيلي.
وفيما أكدت المبعوثة الأميركية لدى الأمم المتحدة، ليندا توماس غرينفيلد، أن القرار يتوافق مع مبادئ الاتفاق الذي قامت عليه الأمم المتحدة، أوضحت أن سبب عدم تصويتها لصالح القرار جاء لأن الولايات المتحدة أرادت أن يتضمن القرار إدانة لحماس لما أسمته بالفظائع التي ارتكبتها في 7 أكتوبر وللانتهاكات المستمرة للقانون الدولي.
وعلى الرغم من تشديد واشنطن على أن عدم استخدام الفيتو لا يعبّر عن تغيير في السياسة الأميركية، إلا أن كثيرين يرون أدلة على الابتعاد المتزايد بين واشنطن في عهد بايدن وتل أبيب في عهد نتنياهو، وهو انفصال يصر نتنياهو على تعميقه أكثر لأسباب لا علاقة لها بأمن دولة إسرائيل.
ويرى معلقون إسرائيليون أن إدارة بايدن أثبتت بهذه الخطوة أنها تتصرف وفق مصالحها وتدير الأزمات بطريقتها، معتبرين أن الأميركيين لم يخفوا مؤخرا اعتقادهم بأن نتنياهو لا يقود توجها استراتيجياً من أجل دمج إسرائيل في المنطقة، وإنما تحوّل إلى شخص يضر بمصالح الدولة التي يرأسها.
ويرى الخبير في الشأن الأميركي الدكتور شاي هار تسفي أن عدم استخدام الفيتو يشهد على مقدار خيبة الأمل الأميركية من عدم تجاوب نتنياهو مع طلبات الإدارة الأميركية بشأن دخول المساعدات إلى غزة، ومفاوضات صفقة التبادل، واستراتيجية “اليوم التالي”. بالإضافة إلى ذلك، فإن هذا الموقف ينسجم مع تصريحات بايدن وكبار مسؤولي الإدارة بأن إسرائيل، إذا لم تغير سياساتها وسلوكها، ستفقد الدعم الدولي، وربما تجد نفسها معزولة.
وقد ظهرت دلائل بارزة على ذلك في الأيام الأخيرة مع تهديدات دول رئيسية على الساحة الدولية مثل كندا وبريطانيا وألمانيا حول استمرار العلاقات الأمنية بينها وبين إسرائيل.
ويبدو أن نتنياهو لم يفهم مسار التغييرات التي طرأت على إدارة بايدن وانتقالها من احتضان إسرائيل بلا شروط وتزويدها بدرع واق عسكريا وسياسيا. وفور صدور قرار مجلس الأمن، انطلق في تحدي الإدارة معلنا عن إلغاء إرسال وفد كان في طريقه إلى واشنطن لمناقشة الوضع في غزة، وخصوصا في رفح.
وتسبب امتناع الأميركيين عن التصويت وإلغاء زيارة الوفد الإسرائيلي إلى واشنطن في الإيحاء ببروز تعميق لأزمة العلاقات بين إسرائيل والولايات المتحدة.
وقال مكتب رئيس الوزراء في نهاية التصويت إن “الولايات المتحدة انسحبت من موقفها الثابت في الأمنوهذا الانسحاب يضر بالمجهود الحربي وجهود تحرير الرهائن، لأنه يمنح حماس الأمل في أن الضغوط الدولية ستسمح لها بقبول وقف إطلاق النار دون إطلاق سراح الرهائن لدينا. وأوضح: “التصويت لا يمثل تغييرا في سياستنا”.
ومن الواضح أن إدارة بايدن التي استمعت إلى تهديد نتنياهو بأنه لن يرسل الوفد تصرفت وكأن الأمر لا يعنيها ولم تستخدم الفيتو. وهنا صعد نتنياهو على شجرة الخلاف والصدام مع إدارة بايدن، ما ينبئ بتعميق الخلاف أكثر بعد.
وسرعان ما استخدمت إسرائيل، كما يبدو، أسلحتها الثقيلة داخل الولايات المتحدة ضد بايدن وإدارته. وقال السيناتور الديمقراطي جو بيترمان في تغريدة على تويتر: “من المروع أن الولايات المتحدة لم تستخدم حق النقض ضد قرار مقترح لا يدين حماس”. وهاجم نائب الرئيس الأمريكي السابق مايك بنس القرار الأمريكي قائلا: “يجب على إسرائيل أن تستمر حتى القضاء التام على حماس. ومن العار أن يصدر مجلس الأمن قرارا يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار من دون ذكر حماس أو هجوم 7 أكتوبر وسمحت إدارة بايدن بتمريره دون استخدام الفيتو. وبعد أسوأ هجوم على الشعب اليهودي منذ المحرقة، لا بد من السماح لإسرائيل بشن الحرب حتى يتم تدمير حماس إلى الأبد. أميركا تقف إلى جانب إسرائيل”.
كما غرد ديفيد فريدمان، السفير الأميركي السابق لدى إسرائيل خلال ولاية ترامب، قائلا: “لقد انتصرت روسيا والصين ببساطة على الولايات المتحدة في الأمم المتحدة، وتمكنت من تمرير قرار غير أخلاقي لمجلس الأمن بشأن غزة. لا توجد إدانة لحماس بسبب وحشيتها، وليس هناك شرط لوقف إطلاق النار يتمثل في إطلاق سراح الرهائن. هناك فقط طلب من إسرائيل لإعطاء حماس نصراً غير مستحق. حماس تحتفل بالنتيجة – وهذا يخبرك بكل ما تحتاج إلى معرفته. أنا محرج للغاية بالنسبة لبايدن وبلدنا.”
وفي كيان العدو أيضا، أثار القرار خلافات يمكن أن تترتب عليها نتائج لاحقة. فبعد القرار، وبغير صلة مؤكدة به، أعلن جدعون ساعر زعيم “كتلة أمل جديد”، انسحابه من حكومة نتنياهو. ويعتقد كثيرون أن انسحاب حزب بيني غانتس من هذه الحكومة بات قريبا خصوصا بعد انسحاب حزب ساعر.
وإلى جانب ذلك، دب خلاف بين نتنياهو وبين غانتس حول عدم إرسال الوفد الإسرائيلي إلى واشنطن، حيث نشر أن نتنياهو اتخذ القرار وحده من دون التشاور مع شركائه. وحمل الليكود على غانتس لإعلانه أنه كان من الخطأ عدم ذهاب الوفد الإسرائيلي إلى واشنطن ولأن لم يفهم معنى مباركة حماس لقرار مجلس الأمن.
كما حمل عضو الكنيست من الليكود، داني دانون على نتنياهو لأنه لم يقم منذ شهر كانون الثاني الماضي باجتياح رفح.
ومع ذلك، تعرف إسرائيل إن “مطلب” الوقف الفوري لإطلاق النار لم يمر في إطار المادة السابعة، وبالتالي فهو غير ملزم وليس له معنى فوري، إلا أنه يمكن أن تكون له عواقب مثيرة للقلق لاحقا.
وتخشى إسرائيل أن يؤدي استمرار القتال الآن إلى نقاش في المجتمع الدولي حول انتهاك قرار مجلس الأمن بوقف إطلاق النار مع حماس، في حين لن تتم في المقابل ممارسة أي ضغط على حماس. كما أن حقيقة أن إسرائيل لن تحترم القرار على الأرجح، تعزز الحجج ضد الدولة في محكمة العدل الدولية في لاهاي (ICJ) والمحكمة الجنائية الدولية (ICC) – وتجعل الوضع أسوأ.
ونقلت صحيفة “يديعوت أحرونوت” عن مسؤول سياسي كبير قوله إن “هذا قرار معقد وخطير للغاية. لقد قلنا إن وقف إطلاق النار هو نتيجة لإطلاق سراح الرهائن، والقرار يعني بشكل أساسي أن وقف إطلاق النار قيمة في حد ذاته”. وأشار المصدر إلى قرار نتنياهو إلغاء سفر الوفد الإسرائيلي إلى واشنطن، بسبب الامتناع الأميركي عن استخدام الفيتو، “يفاقم المشكلة. إنه يضعنا في الزاوية أكثر بإلغاء وصول الوفد إلى الولايات المتحدة.”
وقالت شخصيات سياسية بارزة أخرى إن “دعوة مجلس الأمن إلى وقف فوري لإطلاق النار تثير إشكالية كبيرة – “لأنهم في الواقع يطالبون بوقف إطلاق النار وبإطلاق سراح المختطفين، وهذا يعني أنهم يستطيعون الضغط علينا لوقف إطلاق النار، وهو بالضبط ما تريده دول العالم، ولكن ليس لديهم وسيلة للضغط على حماس”.
أضافوا أن “هذا يدعو إلى ضغوط دولية على إسرائيل وليس على الجانب الآخر”.
وبحسب مستشار البيت الأبيض جون كيربي “كنا واضحين بأننا نؤيد وقف إطلاق النار المتعلق بالإفراج عن المختطفين. ولأن النسخة النهائية لم تتضمن إدانة حماس ولم تطالب بعودة المختطفين بشكل واضح، لم نتمكن من تأييده”. وبرغم إعلان مكتب نتنياهو إلغاء زيارة الوفد، أضاف كيربي: “المحادثات ستستمر بغض النظر عن الإحباط الإسرائيلي من تصويتنا اليوم”.