المطرب السياسي، هو المقتضَب البليغ الذي وصفه به الرئيس سليم الحص. وأبو أحمد الورد، هو اللقب المحبّب، الناطق بلسان أصص الورد التي طالما زيّنت كلماته.
قال أحد الحكماء: «إذا لم تكن تعرف إلى أين تذهب… فكلّ الطرق تؤدّي إلى هناك».
ممّا قرأناه من معاصريه ومحبّيه، أستنتج أنّ طلال سلمان كان يعرف منذ البداية إلى أين يسير، عندما أسّس حاضنته الإعلامية والسياسية، الوطنية والقومية، الفكرية والأدبية والاجتماعية، المبدئية.
لقد سمّى جريدته «السفير» مصمِّمًا على تقديم أوراق اعتماد ما يمثّله من فكر وقيم، في كلّ مجال، وفي كلّ اتّجاه.
وأَطلق رسم حلمي، طير الحمام، رمزًا لها، رسالة سلام، وإيذانًا بقدوم زاجل ينقل الخبر اليقين، والحبّ، والمبدأ الثابت. ثمّ لوّن الطير بألوان برتقال فلسطين، فلسطين البداية، فلسطين القضية، فلسطين النهاية المرجوّة.
أرادها «صوت الذين لا صوت لهم» لعلمه المسبق بأنّه، مهما نهل، مع النخبة من زملائه، أبدًا سيبقى المظلوم بلا صوت… تحت السوط.
وليس أخيرًا، أصرّ على أن يكون زاجله جريدة لبنان، لبنان العروبي، في الوطن العربي، وجريدة الوطن العربي، العرب العاربة، في لبنان.
وليس أخيرًا فلقب «السفير» هو «سعادة»!
هو طلال سلمان الذي لم تُعرَف له مهنة إلّا كلمة الحقّ. هو مفاعل عروبة، مخصّب مخضّب، بوصلة العروبة التي، من أينما قاربتها، تشير إلى فلسطين، كلّ فلسطين، من أقصاها إلى أقصاها… أقصانا جميعًا. هو «حلم العروبة في لبنان وحلم لبنان في العروبة».
وتحتار في أوصافه: صادق، محترَم محترِم، مُلْهَم، يقظ أبدًا، فخور بأصله. صفاء ذهن، وجرأة قول، وشمول نظرة، وإنسانية هدف، سعي متواصل، وصبر من غير وهن.
لم يَحِدْ عن المهنة، ولا عن الطريق، ولا عن الصديق. لا عن المبدأ، ولا عن الموقف، ولا حتمًا عن العروبة ولا عن قول الحقّ. هو يطرّز كتاباته تطريزًا، يعزف خواطره عزفًا، فكرًا وروحًا وذوقًا، وفي صياغتها، هو يحقّق ما تمنّاه الشاعر عندما قال: «ليتَ للفصحى رنين الزجل». وتحاول أن تستعيد شيئاً. وماذا تستعيد يا تُرى؟ السياسة، الاجتماع، العائلة، اللقاءات، القومية، الوطنية، المواقف؟… الفرح… نعم الفرح، ذاك المنشود المفقود أبدًا!
عناوين ومرّت… وتعاقبت العناوين: على الطريق، ثرثرة فوق بحيرة… الهزيمة ليست قدرًا، حنظلة، بسمة، بهجاتوس، ثمّ النوّارة، زهرة المدائن… صريحة، كما وصفها الشاعر:
«ألقوا الكلام صُراحًا في مطالبكم
لا يحجب الظلم تنميق العبارات»
لكن، وعلى مدى ثقافته الإنسانية، يعرّج على «التراويد» و«العتابا» و«المعنّى»، هي الخلفية الأقرب إلى طبيعته.
وتتوالى المبادرات للحوار، للإصلاح، للإنقاذ، لا فرق، حاول حاول فلا بدّ أن تنتصر..!
في «السفير»
أنت في طريقك إلى «السفير». تسلك الممرّ الذي لا نفاذ له، دلالة إضافية في اختيار الموقع. وعلى المدخل تستقبلك «الكلمة» من على رفوف مكتبة صغيرة رُصِفت فيها كتب للقراءة اختارها وأعدّها ونشرها جنود «السفير» تحت عنوان «الكتاب للجميع»، فأنت تتناول الكتاب، زهاء 150 عنوانًا أو أكثر منها، الكتاب بما هو وسيلة لنشر الأفكار إلى الناس. تتعلّم، وتتعلّم أن تنشر حبّ القراءة.
تصعد بعدها إلى مكتبه في الدور السادس، وتسأل الوفيّة ديانا عنه. هو في اجتماع، أو غائب، أو لديه ضيوف، أو مسافر، لا فرق. فأنت قد وصلت… وأنت تجول في أيّ من الأدوار وتدخل أيّاَ من الغرف وفيها من نفس طلال وكأنّك تحاورت معه. هذا بيتك، هذا أنت في السياسة والاجتماع، في الموقف، في الجدّ وفي المزاح.
ولأنّ الإناء يصطبغ بلون ما فيه، وعلى تنوّع علاقتي الشخصية بهم، فأنت تزور باسم أو محمّد أو ياسر. واللائحة لا تنتهي عند وليد وغاصب وإبراهيم وجهاد وعارف ونصري وغيرهم حتى آخر الأبجدية، وكلّ منهم، لا شك، له شخصيته المستقلة لكنّه مجبول بروح المَحَلّة. هذا مسرح للفنّ والفنّانين أيضًا.
على باب هذا السلمان، يستحسن أن تخلع عنك الطائفية والجهوية والحزبية والزبائنية وفارق العمر…
في الحديث، تختلط كآبة السياسة بألوان الطفولة بلوحات الفولكلور بالظُّرْف والطرافة.
وتتلاطم الحوارات، وفيها الاستراتيجي بالمرحلي، الجهوي بالحزبي… كلّها مرطّبة بالقهوة والشاي والزهورات، وخاصة الزهورات وكلّ ما يمتّ إلى جمال الزهور وإلى أصصها في محيطها الطبيعي… ويأخذك هذا المتمرّد أبدًا من أمام الصورة إلى وراء المعنى، من أمام الشكل إلى وراء اللون، ويتسلّل بك من أمام الحقيقة إلى وراء الهدف.
هذا الصرح سرعان ما أصبح محجّة يقصدها أهل الفكر وقادة الرأي: هو مملكة، عرش، عرين، ديوان، مدرسة، جامعة، أكاديمية، لا فرق، هو حتمًا ممرّ الطامحين، جاذب الأحرار، ملجأ المنبوذين، صوت المستضعفين، اختر ما شئت!
وكلّ ست سنوات، بالتوقيت الدقيق عندما كان للوقت الدستوري احترام، يتحوّل الطابق السادس في ذيّاك المبنى «الحمراوي» إلى مطهر، يمرّ من خلاله كبار «المطروحين» إلى رئاسة البلاد، وبين نخبة من الطامحين لها، في مشهدية امتحانية فريدة، معبِّرة، وقد عبّر طلال عنها وعنهم وفكّك عُقَدَها وبعض عُقَدهم.
«وفي مقلتيه التماع الغد»
أدخُلُ مكتبه فجأةً، من دون سابق علم، ومعي ابنتي روى، فيستقبلنا كأنّه بانتظارنا، وسرعان ما يباشر الحديث مع ابنة السبعة أعوام، ويدخل في مواضيع تهمّهما ثنائيًّا. وخلال الحديث، ينهض من وراء مكتبه ويدعوها للجلوس مكانه ويسلّمها قلمه ويوجّه كلامه إلى الورقة بين يديها. ويا فرحة الطفلة «الصحافية» بالفطرة. ثمّ يتّصل ليستدعي مصوّر الجريدة ليوثّق زيارتها بعدد من الصور وهي تجلس في عرين التحرير مُهاتِفة المراسلين. يا لها من ذكريات ما زالت روى تحتفظ بصور عبّاس، أسود وأبيض.
وكان أن كَتبتْ روى له كلماتها القلبية تُهنّئه على سلامته من محاولة الاغتيال الغادرة، لتنشرها لها «السفير»…
يا له من طفل في لباس الكهولة، الأستاذ التلميذ أبدًا..
«إذا القوم تنادوا شهدوا
أنّك السبّاق بين الأُوَلِ»
يدعوك إلى حملة من أجل مصيرك: فلسطين. فتدخل القاعة الكبرى في السفير لتواجه جمهورًا من نخب القوم العربي، تنادوا إلى حملته تحت عنوان «لست وحدك» على أثر اشتعال الانتفاضة الأولى. وتتفاعل النخوة مع النخبة وتنطلق حملة تبرّعات دعمًا للقضية ولصمود أهلها، ليساهم فيها الكبير والصغير بمبلغ، مهما كان رمزيًّا، يحفر من خلاله اسمه على يومية الحملة، التزامًا بالقضية.
لا مهادنة في موضوع القضية، هو ذاكرة العروبة، كأنّه يردّد مع الشاعر:
«الله خطّ على أكبادنا قدرًا
ميثاقنا الموت أو نحيي فلسطينا!»
في المكتب أو في البيت، على الطريق أو في ساحة الوغى، مع فورة الغضب أو في أجواء الطرب، يُنسيك أنّ العالم قد اخترع ذاك الجوّال الذي «يطالك» أينما كنت ليعكّر عليك لحظة اللقاء.
حكايات مع أبو أحمد الورد
فجأة يتصل: جهّزوا حالكم. نذهب من دون استفسار إلى أهل الفنّ، آل الخطيب، جلسة نشهد فيها على صعود سميّة إلى النجومية.
أمّا إذا كانت السهرة في بيتك، فقد يفاجئك وضيوفك باصطحابه فيليمون، ويا لها من قَهْقَهات في فكاهات السياسة اللبنانية، أو يدخل ومعه حليحلٌ أو محمد الأثاث، فيا لصداح البلبل، ومعهم شلّة من العازفين (عن المناصب) وآلات الطرب. ويا لها من «نشوة الصوفيّ في غمر التجلّي» ترتفع فيها «الآهات» مع ترانيم الشعّار.
يأتي إلى عشائك البيتي في العاشرة، فينهض مَن يتجمهر للسؤال عمّا حصل، عمّا سيحصل، وهو يحاول أن يهرب من السؤال، بعيدًا عن غلاظات السياسة، إلى زاوية مرحة، بسيطة. ينهض الضيوف إلى العشاء فيبقى مع مَن في حلقته مع صحن الفستق ثمّ، ولدى الإلحاح، يقول لسيّدة البيت أن تسكب له أيّ شيء لونه أخضر. وعند منتصف الليل، على مثال سندريلّا، يختفي من دون وَداع، خفيف الظلّ، مثقل المهامّ، يعود إلى حيث تنتظره آخر سطور ما بدأها قبل إيابه من افتتاحية الغد.
أمّا إذا كنت في جمهرة عرس، فإليك بِـ«أبو يحيى» والفرقة، ويا دبكة ردّيني!
وننزل إلى الساحة. وينزل طلال بخطى متمايزة بتعرّجاتها لتتساءل إذا ما كانت هي قد أسّست لِـ«العرجة»، أم هي مقدمة للدخول «عسكر» إلى الحلبة؟
والحدث طبيعي إذا ما شاركته عرسًا بقاعيًّا وبينكم المناضل بن بلّا وعائلته.
نعم. يمرّ بك، كالنسمة، خفيف الظلّ، وكنسمة يترك عندك جرعة من الشوق إلى المزيد.
في مزج الظُّرْف بالظَّرف
من أظرف ما سمعته وصفه لِـ«انتفاضة» جاره السيد سيمون. كان، يا ما كان، على زاوية شارع السفير «كاليري سيمون» للمفروشات. وعلى أثر ليلة من القصف العشوائي طال الصالة وأتلف محتوياتها وسيارتها «الفان»، قصد سيمون جاره طلال في المبنى المجاور في الزقاق المسدود، غاضبًا، فأدخلته المتفهِّمة ديانا وكان لقاء «عاصف»، حسب وصف أبي أحمد الإنسان.
وتأتيك دقائق الحوار بلغة سيمون الذي، خلافًا لطلال، لم يكن يهتم للغة العربية. فيسرد، بعد وصف مقتضب لمظهر الجار، ما قاله سيمون:
«شوف يا أستاذ طلال، أنا جارك. أنا ما بقرا جريدتك. أنا ما بعرف شو أنت بتقول. أنت بتكْتب، هَداك بيقرأ، هوِي بيزعل، هوِي بيقْصف أنتَ، بيصِيب أنا. أنا خلاص. أنا رايح. أنا قطعت وان واي تيكيت ONE WAY TICKET إلى جهنّم أحمر!». ويعلّق طلال على خسارة «فان» سيمون: «فان يا ما فان… في قديم الزمان»!
وقَهْقَهْ وقَهْقَهْ وقَهْقَهْ!
يروي لك كيف يقصده أهل المنطقة طالبين المساعدة في توظيف ولدهم، ليسألهم: ما هو تحصيله العلمي، فيكون الجواب: «متل طربون الحبقة…» ويتابع: ما هي خبرته العملية، الجواب «الشافي»: «زلْقْطَة يا بيك، متل الزلْقْطَة، بيعرف كلّ شي…».
وقَهْقَهْ وقَهْقَهْ وقَهْقَهْ!
«ذكريات أكتوي في سردها
طال هذا السرد أو لم يطلِ»
لا… لم يترك طلال سفيره فجأة. فهو دأب على توجيه الإنذار تلو الإنذار. وبقيت الأسباب الموجبة طيّ الصفحات منحوتة في صحن مقالته الوجدانية التي عنونها في 23 أيار 2017 «خيانة في وضح النهار». وقد «عارضتها أنا بمقالةٍ بعنوان: «إلى طلال سلمان، هل قدرنا معاصرة المآسي من قِفا نَبكي إلى كَفْكِفْ دموعك؟».
في يوم إغلاق «السفير»، قلت له بأسلوبه عندما يستعين بكلمات الأغاني:
«يا سفير قُلّي إنت رايح على فين؟
يا سفير قُلّي يا سفير قُلّي..»
وبعدها كان صالون الخميس، والحقّ يقال إنّه للبعض منّا كان صالون كلّ يوم.
في الوداع… «لو أنّني أخشى على القارئ وطء المللِ».
بعيدًا عن أدب الفجيعة ومراثي الأبطال وطقوس البكاء أتساءل معكم: أنت تقف، صادقًا، معزّيًا متقبّلًا التعازي معًا من كلّ مَن عرفه أو لم يعرفه على السواء. ويشمل ذلك اتصالات إلى ما وراء الجبال والبحار… فضلًا عن اتصالات من مدينتك وبلدتك المجاورة لبلدته، من عائلتك وعوائل المحبّين.
هو دخل إلى كلّ بيت، شخصيًّا أو سيطًا أو انتماءً أو موقفًا. وفي وداعنا هذا، تخاله خرج من كلّ بيت إلى مأواه الأخير في شمسطار.
في أيام الحزن الأخيرة، ودّعتك مناديل وأفئدة، وما ترقرق من دمع… من بيروت إلى شمسطار وعودة إلى ديوان التخصّص، وقف الكلّ هناك مستقبِلًا مودِّعًا معًا. والذين لم يكونوا في عدادنا لأسباب مواقفهم السياسية أو أفعالهم العدائية لا شكّ أنّهم تمنّوا لو لم تكن تلك الأسباب ليتسنّى لهم أن يكونوا معنا.
هو استفتاء شعبيّ رسمي صحافي أدبي عفوي. اجتمع فيه كلّ مَن يختلفون في نزعاتهم ويجتمعون في إنسانيتهم.
لقد شاهدت من الربت على الظهور وشهدت على الحفّ على الأكفّ ما يواسي الأمة جمعاء، والحمد لله.
ونسأل: هل قصد توقيت رحيله في لحظة بيروت عاصمة الإعلام العربي في تعبير ساخرٍ منه عن حزنه، لا بل غضبه، على الإعلام العربي الذي كان هو سفيره وصوته وزاجله…
أخي طلال،
في يوم رحيلك أيها الطفل العملاق، أيها الخجول بالفطرة، في هذا اليوم يبس الورد في الأصص، وخرس نسمة، وهمد جناح الزاجل البرتقالي!
لقد نشأت حرًّا، ورحلت حرًّا، هنيئًا لك وسلام عليك…
جريدة الاخبار