تسير الطائفية هكذا:
تبدأ بـ”الأقربون أولى بالمعروف”، فتهاجم أولاً من خرج عن الجماعة، ثم وحين تتاح لها الفرصة، تسير باتجاه طائفةٍ ما. وأمام كل حدثٍ طائفي بشع، وللتخفيف، نسميه حوادث فردية. لكن الثأر الطائفي لا ينتشي إلا بتوقيع الفعل، وعندما ينفلت تماماً من عقاله، يصور أعماله بنفسه ويجاهر بشعاراته ويغنيها طرباً. …وبما أن المرض سريع الانتشار كالوباء، فإنه لا يلبث يتجه نحو طائفة ثانية تذَّكي النار الأولى بثانية جديدة، وهكذا حتى تدور الدورة لتعود من جديد إلى الأقربين الذين هم أولى بالمعروف، فتكشف عن مخزون من الألفاظ تصيب أبناء الطائفة إياها بلا استثناء: المرتد والكافر والزنديق وعدو الإسلام…
في كل مرة، تبحث الطائفية عن تبريرات وحجج تقنع به نفسها وجمهورها، ولديها في الحالة السورية، حججاً وتبريرات جاهزة.
وهكذا، شيئاً فشيئاً، تغيب الحريات التي لم تخرج من غرفة العناية المشدّدة بعد، ويصادر الصوت الأعلى الصوت الأضعف الذي، كنبتةٍ هشة، يجاهد كي يبقى على قيد الوجود علَّه يُسمعُ أحداً..
وعلى هذا المنوال، سنحاجج طويلاً في مسؤولية العلويين، لا أفراداً وإنما جماعةً “قشة لفة”، ثم سننتقل بسهولة ويسر إلى باطنية الدروز وبُعدِهم عن الإسلام الحقيقي (اسلامنا)، فننتبه أننا لم نُكَفِر الشيعة كما يجب، فنتدارك الأمر حرصاً على العدل ونذَّكرُ من نسي إثمَ سبِّ الصحابة… وعندما يحتدم النقاش، نسارع بالاستنجاد بالمسيحيين ونضرب بهم المثل “لأنهم بحالهم رغم انتهازيتهم الدائمة واقترابهم المشبوه من كل الأنظمة” كما يضيف أحدهم بذكاء، مما يستوجب “عدم الارتكان إليهم، ما حدا بيعرف”
وفي هذه الأثناء، تنحسر أهمية أخبار ثانوية من قبيل تغيير اسم قرية علوية وتهجير سكانها، واختطاف نساء علويات، وقتل دروز.. ويصبح نفي ما حدث والتقليل منه ضرورة وطنية..
لا يهم طالما أن المهم هو رفع العقوبات وإعادة ضخ الماء في شرايين الاقتصاد، وكل كلام مثل هكذا كلام، شائعات تسيء إلى الدولة الوليدة، مما يعيدنا إلى تهمة “وهن الشعور القومي” بصيغة أخرى، فنصمت لأن السكوت من ذهب بينما يتكاثر كلام الفضة الذي يقتل حيناً، ويخرج أسوأ ما فينا أحياناً…
والحقيقة أن أسوأ ما فينا هو سمة مشتركة بين كل الطوائف، فليس المرض حكراً على سنةٍ دون شيعة أو علويين دون دروز.. الكل سواء، الفرق هو بين من يملك آلية الفعل (السيء) ومن لا يملكها.
فإذا ما أضفنا إلى كل ذلك القوميات والطبقات والعصبيات.. نفهم حقاً تركيبة الموزاييك الوطني الذي لا نفتأ نتباهى به دون الانتباه إلى كل النسخ الرديئة منه التي تستعيض عن العقيق بقطع بلاستيك بيضاء أرخص ثمناً.. ويبدو أنه قد قضي علينا أن نعيش على منوالها، نتعايش على مضض ونتجاور دون أن نتعارف، وحين نحاول أن نتحاور، يعلو الصراخ حيناً، نتخاصم ونتصالح أو لا نتصالح، وفي هذه الأثناء تُرسم حدود وتتغير خرائط… لكننا طيبون، والله العظيم طيبين، نحب الحياة ونحب المرح والأطفال ويحصل لنا أن نكون أوفياء ومخلصين.. لكن ما السبيل وكل مافينا نال حصته من التشوه والخراب؟