يقول توم الدليل السياحي الفييتنامي الذي رافق المجموعة المؤلفة من عاملين في شركة السكك الحديدية الفرنسية، خلال زيارتنا إلى الفيتنام :” قد يزعجكم ما سأقول، لكن البلد الوحيد الذي ساعدنا خلال أزمتنا بعد الاستقلال (عام ١٩٧٥) كان الاتحاد السوفيتي، كل المشافي والجامعات والسدود والمشاريع الكبرى، هو من مولها. انا من مواليد ١٩٧٤ وقد تعلمت الفرنسية في جامعة هانوي، لكن هل تعلمون أين كانت تتعلم الفرنسية الكوادر من الأجيال السابقة؟ في الاتحاد السوفيتي لا في فرنسا!
خرجت الفيتنام منهكة من الحرب ولم يكن لدينا مايكفي لسد رمقنا. قضيت طفولتي لا آكل كفايتي، كنا نغلي قليلا من الرز ثم نضيف إليه عدة ألتار من الماء كي تصبح كميته أكثر ونتناوله كحساء، وعندما يسعفنا الحظ مرة كل ثلاث أو أربعة شهور كنا نضيف إلى الوعاء قطعتي لحم. أكلنا فئران الحقول ولم نعرف طعم الحلويات ولا الفواكه، بعض الملح فوق الرز يحوله إلى طبقٍ رئيسي، بعض السكر يحوله إلى حلوى. كلفتنا حرب الاستقلال ( الحرب مع أميركا) ثلاثة ملايين ضحية ومثلهم من الجرحى، وعدة أجيال من التشوهات نتيجة النابالم والأسلحة الفتاكة ولازلنا نرى آثارها على اطفالنا إلى اليوم.. وعندما خرجنا من الحرب كان همنا الأول الحصول على لقمة العيش، لهذا لا يحب الفيتناميون السياسة ولا يتكلمون بها، ولايزعجهم أن يحكمهم الحزب الشيوعي القائد وهو الحزب الوحيد في الفييتنام. لا بأس طالما أنه أوصلنا إلى هنا، وأشار بيديه إلى المباني والعمار. لن أتكلم بالسياسة، تابع توم، ونحن كما قلت مدينون لروسيا، ولا أعرف من هو على حق في الحرب الدائرة مع أوكرانيا، لكن عندما أنظر إلى الاوكرانييين، أعرف أنهم فيتناميو الأمس وأنهم سيتعذبون لأجيالٍ قادمة..”
كنت أنظر من نافذة الباص واستمع. على أرصفة هانوي، الناس تشغل الأمكنة كلها، الرصيف هو امتداد الدار، والحياة تتنقل بكل صخبها بين الأزقة. لاشيء يوقف هذا الشعب، تعلم التكيف مع كل الأزمات، واستنبط في كل مرة وسائل جديدة للاستمرار محتفظاً بتقاليده وعاداته الراسخة. كنت سمعت اسم هوشي مين للمرة الأولى على مقعد المدرسة الثانوية في دمشق. كانت تلك حقبة الافتتان برموز النضال ضد الامبريالية، وبقي مؤسس فييتنام وموحد شطريها يداعب خيال كل اليسار الأممي. تغيرت فييتنام كثيراً منذ ذلك الزمان، لكن هذا حديثٌ آخر. قلت أننا نحن أيضاً فييتناميي الأمس وأننا لانزال في النفق الطويل، لا نهاية قريبة له.