اليوم، وبعد عشرين سنة كاملة، دار الفلك دورة كاملة بالقضية الفلسطينية. أهلها الذين أقلهم في ”الداخل” وأكثرهم في ”الخارج” بغير أن تغادرهم أو يغادروها.
ليس الوقت لترف العتاب، أو لعذاب الندم، أو للتباهي بصحة الاستنتاج والادعاء بأن الجغرافيا لا تغترب عن التاريخ ولا تنساه إذا ما تجاهلها الذين يدعون القدرة على اصطناعه من خارجها،
الوقائع تنزف الشهداء، والأرض تضيق بأجداث أهلها، والداخل يكاد يصير مقبرة جماعية، بينما الخارج موت أزرق.
قال ”أبو علي” وهو يرد على اللائمين: أعرف أنني ميت إن أنا دخلت. ولكنني أطلب مقتل الشهيد، ولا أريد ميتة الشريد الطريد في الملجأ الذي يبعدني عنها ولا يبعدها عني.
***
اليوم، وعبر قراءة متأنية في النتائج المكتوبة بالأحمر القاني، يمكن الاستنتاج بلا عنت أو تطرف أو رغبة رخيصة في التشهير أو في التشفي، إن ”اتفاق أوسلو” كان قفصا من نار، أريد أن تحصر فيه ”القضية” في أرض ملغمة، مفصولة عما بعدها، معزولة عما قبلها، تتعذر نجدتها على المقيدين بسلاسل عجزهم، ولا ينفع الإشفاق الدولي في حماية ”الأقلية القومية” التي لم تجد مفرا من مواجهة الطاغوت بلحمها الحي عاريا كالشمس.
ها هي فلسطين محاصرة في قفصها الدموي لا تجد منه منفذا يعيد اليها حرية حركتها، بينما النار الاسرائيلية تحرق الاتفاقات ذات التواقيع الفخمة، والاتفاقات المكملة، والاتفاقات على تفسير الاتفاقات.. وتحرق معها الرموز النضالية والقيادات الشابة والأرض والقصائد وأغاني الفرح وأهازيج الفتية المنذورين للموت.
الكل داخل القفص. الرافض والمتعذر قبوله والمرفوض والبين بين. من قال: فلنجرب، أن نأخذ شيئا ونطالب أفضل من أن نبقى خارجها.
ومن قال: لم يوصلنا الرفض الدائم إلا الى المنافي والموت في النسيان. العودة أجدى. شبر منها أعز من مملكة وهمية خارجها تقوم على مزاج حاكم، قد يهدها الغضب كما قد يهدها الرضا!
الكل داخل القفص، والاصطياد سهل، وأسلحة الصيد تطال أبراج السماء وقعر الأرض وعمق النوايا وأرحام النساء. أول الفخ الطمأنينة الى أن من عاد سلم، وآخره تصديق أن من دخل حكم، وان العنصرية قد تغفر أو قد تقبل التوبة أو قد تبدل طبيعتها إرضاء للآخرين. من صدق بالسلام فله الموت، ومن يحاول كسر جدران القفص جاءه الموت من البر والبحر والجو. من استكان مات، ومن تحرك تم اغتياله في فراشه، في مكتبه، في الشارع، في الليل، في النهار، بالطائرة، بالحوامة، بالصاروخ، بالمدفع، بالهاتف الجوال، بالعبوة الناسفة بيته والأطفال. لا حصانة لفلسطيني ولا ضمانة لمستسلم أو مسالم أو مسلّم بالأمر الواقع. لا ضمانة لأحد قال بالثورة أو حمل سلاحها أو مشى في ركابها أو بشر بها في شعره.
… ومصر في القفص، تعجز عن النجدة، وتعجز عن الحماية، ويهصرها الحصار فتتضاءل حجما ونفوذا، وتكاد تنفجر تحت وطأة شعورها بامتهان كرامتها، وبين ندم لا ينفع إلا في تفاقم العذاب وبين محاولة للجمع بين النار والماء أو بين المذلة والانتفاض حفظا لكرامة الشهداء الذين حفروا بدمائهم الرباط المقدس بين الأمة وقضيتها المقدسة.
والأردن في القفص. يرتجف خوفا من أن تتكسر جدران الأقفاص، ويشعر بالموت يحوم من حوله وهو داخل سجنه المختوم الأقفال بالتواقيع الدولية المهابة. يخاف من خارجه، ويخاف من داخله. يخاف من سجانه، ويخاف من مسجونيه. يخاف من ماضيه على مستقبله، ويخاف من غده على يومه. يخاف من حاكمه البديل من الوطن، ويخاف من فكرة الوطن على العرش… والعرش أبقى من الأوطان، فالنسب مقدس حيثما حل، والأرض أرض الله يورثها من يشاء ممن استخلفهم فيها.
فلسطين في القفص، وكل قطر في قفصه الذاتي، ثم إنه في قفص الأقفاص الذي يضم جميع الأسرى المعزولين عن بعضهم البعض بأقفاص على المقاس.
كل معزول عن قضيته، معزولة عنه أمته، لا صلة ولا تواصل ولا اتصال إلا عبر الموت. لا رباط ولا ترابط إلا الموت. التضامن إعلان حرب لا يقدر عليها أحد ولا يطلبها أحد ويهرب منها الجميع.
إسرائيل وحدها التي لم تخلع ثياب الحرب أبدا منذ ستين عاما أو يزيد تطارد كل من تشتبه في أحلامه، تعرف أن الحرب شرط حياتها، ويتوهم العرب أنهم إن صالحوا سلموا، لكن لا صلح، إسرائيليا، إلا بالموت.
سقط وهم آخر، اليوم: اللقب الفخم لا يحمي أحدا، والإذن بدخول القفص ليس ضمانة للحياة فيه. تدخل لتموت بإرادتك، فإن لم تمت قتلت.
ما أبرع المذيعين العرب وهم يصفون الموت الإسرائيلي بالسلاح الأميركي الذي طالما أطنبوا في تفخيمه وهم ينقلون -مباشرة- الاحتفالات العربية الفخمة بمعارضه الأنيقة في عواصمهم ذات الأبراج.
ما أبهى خبر الموت الفلسطيني بين أغنيتين راقصتين لمطربتين جميلتين يحيط بكل منهما جمع من الراقصين والراقصات يتقافزون كالجنادب، ليبعثوا النشوة في نفوس المحاصرين السعداء!
فلسطين في القفص. القفص يتسع ثلاثمائة مليون أو يزيد!