نشرت في جريدة “السفير” بتاريخ 15 آذار 2002
مطر أحمر يهمي بلا توقف، يضرّج وجه الارض، يبث في الهواء دفء الانتماء الى انفاس الأم التي غادرت البكاء حتى تثبت في حدقتي عينيها ملامح شهيدها، ويُخرج السماء من زرقتها الرمادية الباهتة فيزرع فيها اسماء الذين غادرونا فإذا هي حديقة من شقائق النعمان.
مطر أحمر يغسل الوجوه فيتعرّف »العربي« إلى ذاته بعد طول اغتراب.
يكشح المطر الاحمر الخوف والنسيان، يعيد فتح الشوارع المغلقة على الغلط والمزوّدة بكلاب الحراسة المدرّبة على قمع التغيير.
تسري فلسطين بدمها من أول الأرض الى آخر الأرض، توقظ النيام والمخدّرين بالرعب أو بالعجز، تعيد إلى الوعي أولئك الذين أنكروا أنفسهم وأهلهم لشدة ما خافوا من الفارق بين أحلامهم وقدراتهم.
***
مطر أحمر يهمي بلا توقف، ينزع عن وجه إسرائيل أقنعة تنكّرها قناعاً إثر قناع: تتهاوى أعلام الديموقراطية تحت أنياب العنصرية المتعطشة إلى الدم، وتسقط روايات الاضطهاد التاريخي الذي كان يطارد »الشعب المختار« في البلاد التي صنفتها زعامتها »فوق الجميع«، تحت أقدام طوابير »الصاعقة« الإسرائيلية تحاول في فلسطين أن تنتقم لما جرى في ألمانيا، فتقتل النساء والأطفال والطيور والبيوت والفراشات والشجر، وتزيّن معاصم الشبان بالارقام والدمغات التي ورثتها عن النازية، وتقود قوافل الأسرى من الرجال العزّل وقد ألزمتهم بوضع أيديهم فوق رؤوسهم إلى المعتقلات الجماعية، بينما تهتف جماهير المستقدَمين لتزوير هوية فلسطين بضرورة طرد هؤلاء الذين أعطوا البلاد اسمها وتاريخها وهويتها وأعطتهم ألوان عيونهم وسمرة وجوههم وشرف اصطناع المقدّس.
***
ها هو التاريخ يعيد نفسه ليصحح خطأ فاضحا في سيرته: فما يجري على أرض فلسطين اليوم هو ما كان يفترض ان تشهده هذه الأرض المقدسة في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي. قد يعيش البعض على رصيد غيره، لكن أحدا لا يموت نيابة عن غيره.
لم تعد الثورة ذكريات ماض انطوى وانقضى ولن يعود. لم ينته التاريخ. الأرض ولاّدة التاريخ. لا يولد التاريخ خلسة، ولا يكون بغير أب. ليس التاريخ ابنا غير شرعي للهاربين من جلودهم، من أسمائهم، من أهلهم، من أرضهم التي لا تنكرهم حتى لو أنكروها، ولا تنبذهم حتى لو فضلوا عليها المنافي المكيّفة.
ها هي فلسطين تضرّج بدمها كل العواصم والبوادي والضمائر ووجدان الأجنّة. ها هي تستولد الربيع قانيا متوهجا يتقدم بجلال الفجر الخارج من رحم الظلم والظلام.
تقتحم الأبواب المقفلة على الخوف لتغدو سجونا بديلة عن أقبية المخابرات، تطرد الاستكانة وتزرع في جنبات البيوت شقائق النعمان بالأسماء الحسنى للذين أعطوا الأحياء معنى الحياة.
تبارك القلق الذي قهر الموت والخوف من السلطان. إذا كان السفاح الأعظم قد تهاوى في الشارع تحت أجداث المقتولين بأسلحة دماره الفتاكة، فكيف بهؤلاء الذين كانوا يخيفوننا به ويعيشون على خوفنا منه ومنهم؟!
ها هو الإنسان العربي يستولد ذاته من قلب عجزه، ويرجع الى الشارع مسلحا بإرادته.
ها هي الحياة تستعيد نبضها، والقلب فلسطين.
* * *
لا يحفظ الأرض إلا صاحبها، حياً أو شهيداً. الجيوش للعروش أما الأرض فلمن يحميها.
ها هي إسرائيل تهدم مخيمات اللجوء لتفرض على الذين صدقوا ان غيرهم سيقاتل نيابة عنهم، في المرة الأولى، خيارا وحيدا: بيتك فلسطين كلها، ان خسرتها فأنت لا أحد ولا حق لك لا في الأرض ولا في الجنّة.
وها هم أحفاد الذين تركوا بيوتهم للقتلة الآتين من الغرب البعيد يحاولون بدمائهم تصحيح الخطأ التاريخي: يواجهون، ولو باللحم الحي ولا يتركون أرضهم. تتهاوى أكواخ اللجوء تحت قصف المدافع، يتم إعدام البيوت بالطائرات، يؤتى بالاختصاصيين في قتل الذكريات، تجرف البساتين والمزارع، تحكم الأشجار بالإعدام، تمنع سيارات الإسعاف من نقل الجرحى، يحظر دفن الموتى وتحول المشافي الى مقابر جماعية، لكن الشارع يظل يهدر باسم الحرية.
حكى لهم الآباء ممن جرّب اللجوء ان من يخرج لا يعود، وأن من يبقى لا يموت، وأن خيانة الأرض تبقى بلا غفران.
من يخلِ مكانه للغريب المستقدم ليأخذ بيتا لم يعمره، وليجني ثمار زيتونة لم يزرعها، يكن عليه أن يصير هو الغريب، وأن يقضي عمره شريدا طريدا لا تقبله أي أرض.
لا يحمي البيت إلا أهله، لا يثبت في الأرض الا أصحابها الذين فيها يولدون ومنها يستمدون بشرة وجوههم وبها يكبرون وفيها يتجددون جيلاً بعد جيل ولا ينتهون.
* * *
ساقط كل اتفاق مفروض. ساقط كل تنازل. ساقطة كل مساومة. فلسطين أعلى من أن يطالها المتنازلون.
ترتفع فلسطين بهامتها التي غدت الآن أسطورية. تمخر عباب دمها مرتفعة فوق القمة حتى لا تطالها يد ولا يدركها بصر المؤتمرين، بينما يتهاوى السلاطين دونها الى تحت التحت.
لقد بدأت فلسطين رحلة العودة الى وعيها وها هو النبض يعود الى الشارع والخوف يرتفع الى القمة فيطوقها، وإسرائيل تبدأ رحلة العودة نحو الصفحة السوداء في التاريخ، مرة أخرى.