يتبدى العالم هذه الايام خائفاً، مذعوراً، تجتاحه بالرعب جرثومة لا يراها ولا هو يقدر انها تكمن فيه ولسوف تجتاح جسده جميعاً وتجبره على الذهاب إلى المستشفى، او يتكفل اهله بتوصيله وتأمينه حيث يلقى العلاج، ليمكنهم أن يستردوا، ولو بحذر، الشعور بالأمان .. اقله حتى اشعار آخر!
وحدَّ وباء “كورونا” بين دول العالم، على اختلاف الجنس والاعراق، فاذا هم متساوون في الخوف بل الذعر من جرثومة لا تُرى بالعين المجردة، تكمن داخل الجسد الانساني فتتوالد بمعدلات فلكية، ثم تخرج منه إلى المحيط المجاور فتضربه بالعدوى… لا تتوقف عند حدود الدول، وتخترق اجراءاتها في ظل خوف المكلفين حمايتها.
كانت الصين اول من اعلن عن انتشار هذا الوباء، بمسؤولية أخلاقية رفيعة المستوى، وعن مباشرتها مكافحته.. وخرج الرئيس الاميركي دونالد ترامب يظهر الشماتة.. فلما ظهر الوباء بين الاميركيين اضطر إلى ابتلاع لسانه، ثم إلى سؤالها المساعدة بالأدوية التي توصلت إلى اكتشافها او تحضيرها لصد الهجوم الشامل لهذا الوباء الذي لم يكن العالم يعرفه بما يكفي.
ولقد تحقق في ظل الخوف المتعاظم من هذا الوباء شيء من التضامن والتعاطف والتثبت من وحدة المصير.. وكانت روسيا اول من بادر فأرسلت بعض التجهيزات الطبية والوسائد والاغطية إلى ايطاليا المنكوبة… في حين اضطر الرئيس الاميركي إلى الاعتراف بتفشي الوباء في اكثر من ولاية، ثم إلى اعلان نيويورك “مدينة منكوبة” وفرض الحصار ومنع الدخول اليها والخروج منها.. قبل أن يلحق بها بعض كبريات المدن في ولايات مختلفة.
أما عند العرب فقد تشاطرت معظم الدول، ولا سيما الاغنى، في التكتم على انتشار الوباء فيها، لا سيما الدول الاغنى بالنفط، وسبقت قطر إلى الاعلان عن اعداد المصابين فيها، خصوصا وانها مشاطئة لإيران التي ضربها الوباء مسجلاً ارقاماً مرتفعة جداً فيها.
وبعد لبنان، تجرأت دولة الامارات على الاعلان عن اعداد المصابين فيها، ثم اندفعت الكويت إلى استدعاء مواطنيها من الخارج بينما كانت اعداد المصابين بالوباء في تزايد..
وفي حين ظلت السلطات السورية صامتة، فقد حاولت تركيا إنقاص اعداد المصابين، ثم اجبرها تفاقم الوضع الصحي إلى كشف “السر الحربي” واعلان الارقام الفعلية.
العالم كله تحت الحصار الآن، والتجول ممنوع في مختلف انحاء العالم، الا في بعض ساعات النهار.. وفي العديد من الدول تمت الاستعانة بالجيش لفض التجمعات ومنع التواصل بين البشر لحمياتهم من خطر الاصابة او انتقال العدوى إذا ما تكاثروا في مكان واحد.
اثبتت جرثومة “كورونا” انها لا تقل خطورة عن القنبلة الذرية، مع فارق واضح انها اسرع انتشاراً وأعظم قدرة على تخطي المسافات بحيث استطاعت أن تضرب المجتمعات، على اختلاف درجة التقدم او التخلف، في اربع رياح الارض، وبسرعة البرق قفزت من الصين إلى دول اوروبا الاكثر تقدماً وعزلة، سويسرا واسوج والنروج، ثم إلى الولايات المتحدة الاميركية ومنها إلى المكسيك والبرازيل، واقتحمت الهند فارضة أن ينام المصابون على فرش في الهواء الطلق لتعاظم اعدادهم .. اما ذروة المأساة ففي بعض أرقى الدول الاوروبية فرنسا وايطاليا واسبانيا.
على أن الانسان يخوض هذا التحدي غير المسبوق بالعلم والتجربة ومحاولة التعرف إلى الاسباب، ثم إلى خصائص هذا الداء الوبيل ومكامن قوته وقدرته الهائلة على تخطي حدود الدول مختلفة المناخ، المتباينة في درجة التطور والمعرفة بأسرار الميكروبات وقدرتها المذهلة على اختراق الحواجز عند الحدود المحصنة، وتجاوز اختلاف المناخ والتقاليد والعادات في الاكل والشرب واسباب التجمع واعداد المجتمعين.
إن الانسان واحد، سواء تبدى جبارا لا يهزم، ام ضعيفاً يعجز عن مقاومة الداء الذي يختبئ في حشاياه: يأتيه من الهواء المثقل بالميكروبات، ويتنقل بحرية مقتحماً الحواجز بين الانسان واخيه، بين الزوجين، بين الام واطفالها..
لقد سقط ملايين البشر في الحرب العالمية الأولى (1914- 1918)، وسقط ملايين أخرى في الحرب العالمية الثانية (1939- 1945)، كما سقط الملايين في حروب أخرى مختلفة (الحرب الاميركية في فيتنام)، الحرب التي شنها الرئيس العراقي صدام حسين على الجمهورية الاسلامية في (1979- 1988)، ثم على الكويت (1991).. ثم في مواجهة الغزو الاميركي (2003) للعراق واحتلاله وتسليم الدكتاتور إلى “الشيعة” لتكون فتنة لا تبقي ولا تذر، وتغطي الاحتلال ونهب النفط وتشجيع المتآمرين على وحدة العراق..
وبغض النظر عن الاسباب والنتائج، وعن الاسباب والدلالات السياسية لهذه الحروب التي قسمت دول العالم بين مؤيد ومعترض ومحايد يسكنه الخوف..
بغض النظر عن اسباب تلك الحروب ونتائجها، والتي تثبت أن الاطماع ونزعة استعمار الغير باحتلال بلاده، او احتكار اسباب العلم لفرض استمرار التخلف في مجتمعات انسانية فرضت عليها دهور الاستعمار وغلبة الاقوياء بالسلاح او بالمال العجز عن اللحاق بركب التقدم وتوفير شروط السلامة لأبنائها.
بغض النظر عن ذلك كله فان اهم ما يجب أن يرسخ في الضمير: أن الانسان واحد، في الارض جميعاً، من دون التوقف امام الجنس او لون البشرة، وان أمام هذا الانسان، بعد، تحديات هائلة و”حروبا قاسية” وغير محسوبة او متوقعة ليس فقط تجاه اخيه الانسان، بل اساساً تجاه ما يفسده من اسباب السلامة في المناخ بسبب مخرجات الصناعات الحربية، وفيها القنابل الذرية والهيدروجينية الخ وحروب الميكروبات القاتلة التي لجأت بعض الدول في فترات معينة..
كذلك فان بين الاوبئة القاتلة العنصرية التي تغذي الشعور بالتفوق على الآخر، كما هي حال الصهيونية..
… ثم هناك الاحساس الكاذب بالمنعة الذي يستشعر الغني بما لم يتعب في “تحصيله”، كالنفط والغاز، الذي تحتكره، في البلاد العربية خصوصا. شركات اجنبية تهتم بمنابع الذهب الاسود واستثماره واستغلاله وهي تبيعه للمحتاجين اليه في العالم كله، من دون أن تنتبه للحظة، إلى احوال اهله، والسعي لإخراجهم من ليل الجهل الى دنيا العلم..
وها هي اغنى بلاد الله بالنفط، تتكرم على رعاياها أخيراً، بأن يخرجوا من منازلهم الى دور السينما والمسارح، وتسمح ـ ايضا ـ باختلاط الرجال والنساء وبإسقاط الحجاب والاكتفاء بمنديل يغطي الشعر الا قليلا.. عند الوجه..
.. مع ان الكورونا لا تضرب الانسان في وجهه، ولا هي تصيب عينيه.
ثم انها تصيب رجال المخابرات وحراس الليل، ولا تحميهم بنادقهم او تقاريرهم واستنتاجاتهم الخاطئة، اكثر مما تصيب ضحاياهم ..
والامر لله من قبل ومن بعد..
تنشر بالتزامن مع جريدتي “الشروق” المصرية و”القدس” الفلسطينية