يبدو أن الامة العربية ممنوعة من التعرف إلى مستقبلها وبنائه بما يلائم طموحاتها ومصالحها وحقها في غد أفضل.
وتدل تجارب القرن الماضي أن الهزيمة العربية امام الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين والذي جاء معززاً بدعم المعسكرين: الغربي الرأسمالي، والشرقي ـ الشيوعي، فضلاً عن التخاذل العربي وغياب القدرات العسكرية، وعجز المتطوعين، برغم شجاعتهم ـ عن دحر العصابات الاسرائيلية المهاجمة ومنعها من تحقيق اهدافها وطرد الفلسطينيين من ارضهم ليصيروا “لاجئين” في الاقطار المجاورة.
تدل التجارب أن ذلك كله قد فتح الباب امام قادة الجيوش العربية ليباشروا، كل بدوره وفي بلده، قلب انظمة الحكم، بذريعة محاسبتهم على عار الهزيمة وتقصيرهم في إعداد البلاد للمعركة المصيرية في فلسطين.
كانت البداية في “انقلاب مصنع” في دمشق، قاده حسني الزعيم الذي أعطى نفسه رتبة الماريشال، وبين اهم انجازاته التي جاءت به إلى السلطة في دمشق تمرير خطوط النفط لشركة التابلاين إلى مرفأ يافا، الذي استبدل بعد “النكبة” في فلسطين بمرفأ الزهراني في جنوب لبنان.
بعده ستتوالى الانقلابات العسكرية في سوريا، بذريعة الرد على الهزيمة في فلسطين، حتى تفجر مصر بثورة 23 يوليو (تموز) 1952، حيث ستجد دمشق شكري القوتلي الحضن الدافئ في قاهرة جمال عبد الناصر، لإقامة دولة الوحدة، “الجمهورية العربية المتحدة”..
ولسوف يتفجر العراق بالثورة ضد عرش الاسرة الهاشمية ممثلة بفيصل الثاني ابن الملك غازي وحفيد فيصل الاول الذي أريد تنصيبه على عرش سوريا، فلما تعذر ذلك اخذه البريطانيون إلى العراق فنصبوه ملكاً عليه، بينما كانوا قد شطروا الضفة الشرقية لنهر الاردن عن الضفة الغربية واقاموا في عمان امارة هاشمية للأمير عبدالله بن الحسين (شقيق فيصل الاول) ..ثم صيرته النكبة في فلسطين ملكاً على الضفتين، قبل أن يتم اغتياله بعد سنتين تقريبا في صحن المسجد الاقصى في القدس الشريف.
لكن هذه الثورة التي نفذها الجيش بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم (بالشراكة مع العميد عبد السلام عارف) سرعان ما أغرقتها الشعبوية في مستنقع دموي زاد من حدته الاصرار على استعادة “قضاء الكويت” إلى الدولة العراقية، مما جمع خصومها الذين وجدوا من يرعاهم ويوحد صفوف العسكر مع حزب البعث، تحت قيادة عبد السلام عارف وقتل عبد الكريم قاسم.. وتم “التنازل” عن الكويت ثمنا للاعتراف بالنظام الجديد.
باتت الجمهورية العربية المتحدة “المرجع العربي” الذي له حق القرار في مختلف الشؤون ذات الاهمية.. وكان طبيعيا أن تتركز المؤامرات على هذه الجمهورية، التي شكلت خرقاً للمشروع الاستعماري المتجدد ضد العرب في حاضرهم كما في مستقبلهم على وجه الخصوص.
ولقد نجحت مؤامرة الانفصال في غفلة من المشير عبد الحكيم عامر، الذي كان في دمشق.. ومن سخريات القدر أن منفذ الانفصال كان قائد حرس الحدود..
بعد ذلك سيعاد الاعتبار إلى مبدأ الثورة، والى جمال عبد الناصر، بانتصار ثورة الجزائر، وقيام جمهوريتها المستقلة بقيادة واحد من الابطال الخمسة الذين اختطفهم المستعمر الفرنسي من الجو بينما كانوا عائدين في طائرة ملكية من المغرب إلى تونس.
ولسوف تشهد الجزائر أعظم تظاهرة في تاريخها عندما زارها عبد الناصر للتهنئة، صيف عام 1963 حتى انه اضطر مع الرئيس احمد بن بله إلى ترك السيارات الرسمية واكمال الجولة بسيارة الاطفائية وسط جماهير غفيرة تلتهب حماسة.
في 26 ايلول 1962 قامت ثورة في اليمن بقيادة العقيد عبدالله السلال، انهت حكم الأمام محمد البدر بن حميد الدين الذي كان توفي تاركا الحكم لابنه أحمد. وقد استنجدت هذه الثورة بجمال عبد الناصر لحمايتها من الهجوم العدائي الذي شنه ضدها السعوديون..
وبعدها بفترة وجيزة باشر عبد الناصر محاولاته لإعادة توحيد الصف العربي فتوالت القمم العربية في القاهرة ثم الاسكندرية ثم القاهرة.. وكان آخرها في القاهرة وكانت طارئة بسبب تفجر الاوضاع في الاردن، وتعاظم الاشتباك بين الجيش وقوى منظمة التحرير الوطني الفلسطيني.
في ختام هذه القمة عاد عبد الناصر من وداع امير الويت منهكاً.. ودخل بيته قاصداً غرفة نومه.. وفيها أسلم الروح في 28 ايلول (سبتمبر) عام 1970.
وبعد الوداع الذي احتشد فيه الشعب المصري الى جانب وفود شعبية ورسمية من مختلف ارجاء الوطن العربي، كان بديهياً ان يتولى الرئاسة “السيد النائب” انور السادات..
وستفتح صفحة سوداء في التاريخ العربي الحديث.
الى اللقاء