تصلح تجربة قطر لان تدرس: فهي، في الاصل، مشيخة خليجية صغيرة المساحة المسكونة، معدودة السكان، كان أهلها الفقراء يعيشون من البحر، لؤلؤاً وسمكاً وبعض التجارة مع جيرانهم في الخليج العربي والسعودية وإيران.
ثم.. منّ الله على المشيخة الصغيرة بثروة خرافية من الغاز في مياه الخليج امامها وصولاً إلى ايران.. وباشرت الشركات الاجنبية التي جذبتها الثروة الجديدة إلى شبه الجزيرة، قطر، لاستثمار الثروة التي تدفقت كما الهواء، فرفعت البلاد الفقيرة إلى مصاف اشقائها الاغنياء، بل هي تجاوزتهم في الثروة بأشواط؟
ضرب غرور الثروة رأس شيوخ قطر من الاسرة الحاكمة.. فأقدم ولي العهد، الشيخ حمد، الذي كان يزين مكتبه بصورة القائد العربي العظيم جمال عبد الناصر، على خلع والده، خلال غيابه عن البلاد في رحلة استجمام، ومنعه من العودة إلى الدوحة فبقي ضيفاً على الاسرة الحاكمة في ابو ظبي عاصمة دولة الامارات العربية المتحدة.
لم تكن تلك اول مرة يخلع فيها الابن الاب، فمن قبل كان الاب قد قام بخلع سلفه وتولى السلطة مكانه..
نفخ الغاز قطر، فصارت الدوحة عاصمة عربية كبرى، وصارت تبحث عن دور عربي ثم عن دور دولي . وكانت السعودية وسائر دول الخليج نائمة، ثم فوجئت بمحطة “الجزيرة” تسيطر على الاجواء وتوجه السياسات، وتستضيف قوى سياسية مختلفة، أبرزها الاخوان المسلمون ومختلف اشتات المعارضات للأنظمة القائمة، ومن ثم المعارضات السورية على وجه الخصوص… والتي تولت تمويلها وتسليحها وأكرمت وفادتها وسخرت لها محطة “الجزيرة” لتعلن مواقفها المنادية بإسقاط النظام السوري. بل انها استخدمت نفوذها المذهب “لطرد” سوريا من جامعة الدول العربية، علما أن “الجمهورية السورية” كانت بين الدول المؤسسة لهذه الجامعة في منتصف الاربيعنات.
بل أن قطر تجاوزت الحدود جميعاً، فاعترفت بالكيان الصهيوني الذي أقام قنصلية سرعان ما حولها إلى سفارة في الدوحة، في سابقة لم يتجرأ على الإقدام عليها أي بلد عربي آخر، في ما عدا الاردن الهاشمي ثم مصر انور السادات..
ومدت الدوحة أذرعتها بالذهب فرعت جماعات كثيرة واحزاباً وتنظيمات اصولية، كما “استضافت” داعية الاخوان المسلمين الشيخ القرضاوي موفرة له المنبر الممتاز.. كما لمت شمل الاخوان بعد اطاحة حكمهم في مصر.. وهكذا استبدل الشيخ خليفة القاهرة بأنقره، وعزز علاقته بإخوان تركيا وحكمهم كحليف اول.
وكان بديهيا أن يتفجر مسلسل من الصراعات نتيجة تضخم الدور القطري الذي لا سند له لا من التاريخ ولا من الجغرافيا… وثروة الغاز ليست أعظم من ثروات جيرانها بالنفط، كما بالتاريخ، والسعودية منها بالذات.
اندفعت قطر، بغرور عظيم، تحاول تغيير النظام في سوريا، وكان “صديقاً” إلى حد أن الرئيس السوري قدم للشيخ حمد بن خليفة، اميرها قبل أن يخلع، تلة تطل على ميسلون حيث جرت المعركة البطولية التي استشهد فيها وزير الحربية يوسف العظمة لمنع جيوش الاحتلال الفرنسي من دخول دمشق، مع نهاية الحرب العالمية الأولى.
كذلك فقد تحرشت بالعراق مستفيدة من الفوضى العارمة التي ضربته بعد الاحتلال الاميركي في 2003..
وقفزت قطر من بعد إلى الاقطار العربية في افريقيا، وبعد تجربتها البائسة مع الاخوان في مصر، كان لها تجربة تبدت ناجحة مع الاخوان المسلمين في تونس، الذين اخذهم غرور العودة من المنفى إلى طلب السلطة كاملة فكانت النتيجة أن اخرجوا منها.. ثم قفزت قطر إلى صحراء ليبيا السياسية فحاولت تركيب تحالفات شيطانية سرعت في تفجر البلاد فقيرة التجربة السياسية بعد عهد التفرد القذافي.. ومدت قطر اذرعتها نحو الجزائر والمغرب فلم توفق فانحدرت نحو الصحراء الافريقية ثم التفتت إلى بعض الجزر في المحيط.
يالمقابل، اندفعت قطر بمالها إلى اوروبا بعنوان فرنسا وبريطانيا، فاشترت الفنادق الكبرى وبعض البنايات ذات الشهرة العالمية… واقتحمت الرياضة، فاشترت فرقاً من الدرجة الأولى، كما جاءت إلى فريقها بلاعبين دوليين، وانشأت واحدة من افخم المدن الرياضية لتقام فيها دورة اللعاب الاولمبية للعام 2020 الخ..
كانت “الجزيرة” هي المدفعية التي تجهد ـ بقدراتها الاعلامية المميزة ـ للهجوم السياسي، وتقدم قطر للعالم وكأنها عاصمة القرار العربي، بل الاقليمي اذا ما أضفنا تركيا واسرائيل إلى ما تعتبره الدوحة مجالها الحيوي.
على أن انتفاخ قطر سرعان ما واجه صعوبة في استمرار التمدد بعد وفاة الملك عبدالله في السعودية، ومجيء “العهد الجديد” فيها بقيادة الملك سلمان والى جانبه نجله الطموح جداً محمد بن سلمان المتنافس داخلياً مع ولي العهد الامير محمد بن نايف، والموثق علاقاته بواشنطن عن طريق بيعها خطته لاقتحام العصر بأية كلفة كانت وتقديم نفسه بوصفه رجل المستقبل.
كذلك كان ولي العهد الشيخ محمد بن زايد، رجل المستقبل في دولة الامارات العربية المتحدة قد اعد نفسه فعلياً ليكون الشريك المطلوب لمحمد بن سلمان، انطلاقاً من واشنطن وانتهاء بالحرب على اليمن..
المال بالمال، والسلاح بالسلاح، والاعلام بالإعلام، لكن احجام الدول وقدراتها وعلاقاتها العربية والدولية هي التي تحسم.
ودارت حرب نفوذ طاحنة بين السعودية ومعها بالضرورة البحرين، وبالتحالف دولة الامارات، وعلى الجانب الاخر بغازها ومساحة نفوذها الذهبي..
وكانت تركيا تدعم قطر إلى حد انها خسرت السعودية..
ثم أن السعودية ومن معها قررت الحرب على ايران، بالسلاح المذهبي، لتصل النار إلى سوريا ولبنان (عبر “حزب الله”)..
وهكذا خسرت قطر مجالاً حيوياً ممتازاً كانت تلعب فيه من خلال مساهمتها المباشرة في دعم المعارضة السورية بالمال والسلاح.. فدفعت السعودية أكثر واشترت المعارضة السورية.
على الضفة الاخرى ادى دعم تركيا الاخوان المسلمين إلى خسارتها مصر التي تحولت الى عدو، مما احرج الجيب التركي الفلسطيني ممثلاً بمنظمة “حماس” في غزة.. فقد وجدت نفسها مضطرة، في نهاية المطاف، إلى التبرؤ من تنظم الاخوان المسلمين الذي كان يشكل هويتها السياسية..
وهكذا بدأت قطر تخسر الكثير من مواقع نفوذها، خصوصاً وقد نجحت السعودية في شراء الرضا المصري والصمت العراقي، ودعم الاردن، والحياد اللبناني، والغياب السوري وولاء جامعة الدول العربية لتقزم الدور القطري فيها.
المال وحده لا يصنع السياسات ولا يحمي الدول..
وهكذا فان “التجديد” في السياسة السعودية، معززا بدعم دولة الامارات، وثنائية “المحمدين” ـ محمد بن سلمان ومحمد بن زايد ـ وسبقهما إلى توطيد العلاقة مع العهد الاميركي الجديد الذي جاء بعد اوباما الذي لم يكن قريباً من قلوب هؤلاء “البدو الاجلاف”، كل ذلك قد حاصر النفوذ القطري عربياً ودولياً.. ولم تعد “الجزيرة” صانعة السياسات (والحروب) العربية.
وحين نجحت السعودية في أن تغري الرئيس الاميركي الآتي من عالم المضاربة، بأن تكون محطته الأولى في اول خروج من بلاده، وجمعت له خمسين دولة في مؤتمر قمة عربي ـ اسلامي في الرياض، كانت تلك “الضربة القاتلة” للنفوذ القطري والاحلام الامبراطورية..
ملاحظة: لو أن مصر “موجودة” تمارس دورها القيادي الطبيعي..
.. ولو أن العراق “موجود” بمعنى الدولة الموحدة والقادرة،
.. ولو أن سوريا ليست غارقة في دمائها التي تهدرها الحرب فيها وعليها،
.. ولو أن الجزائر ليست مشلولة الارادة والفعل، وحالتها السياسية تكاد تكون مطابقة لحالة رئيسها الصحية..
لو أن اوضاع العرب هي غير ما هي عليه، لما كانت قطر قد انتفخت إلى هذا الحد غير الطبيعي وغير المقبول.
.. ولما كانت السعودية قد فرضت نفسها قيادة نتيجة لشغور الموقع القيادي لهذه الامة..
ولكانت احوال العرب مختلفة جداً، والفارق كبير بين عواصم النهضة العربية الحديثة، سياسياً وثقافياً واجتماعياً، مثل القاهرة ودمشق وبغداد وبيروت، وعواصم الوهابية وسائر السلفيات ومراكز البداوة في صحراء النفط والغاز التي قد تدر ثروات لكنها لا تبني دولاً ولا تنتج حضارة تشكل اضافة نوعية واسهاماً عظيماً في التقدم الانساني.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق