كعادتهم في كل عام جاءوا الينا شهوداً على المجزرة، باسم الضمير الانساني .. وقد التقيناهم بداية لشرح الاوضاع ودائماً لتحيتهم على موقفهم الثابت في تقدير النضال الوطني الفلسطيني وشجبهم مجازر صبرا وشاتيلا التي ارتكبتها الميليشيات الطائفية في لبنان تحت رعاية جيش الاحتلال الاسرائيلي في مثل هذه الايام السادس عشر من ايلول 1982.
ولقد التقيناهم، كالعادة، فشرحنا لهم اوضاعنا ـ محلياً وعربياً-وأوضاع الاخوة الفلسطينيين في مخيماتهم البائسة..
واستعرضنا معاً تطورات القضية الفلسطينية والانقسام داخل السلطة وبين السلطة والمنظمات.. واستمعنا إلى اسئلتهم النابضة بالقلق، فحاولنا الاجابة عليها بحدود ما نعرف.. وخاطبناهم مرحبين:
اهلاً بكم، أيها المناضلون الذين لا تنسون قضايا الشعوب المحقة حتى القداسة، ولا تتعبون من مواصلة الدعم بما تملكون، وأخطر ما تملكون هو الموقف.
اننا ننتظر قدومكم كل عام لموعد مع التضامن الانساني، موعد مع مناصري الحق والعدالة، الثائرين على الظلم والعنصرية والظلم التاريخي الذي لحق بالشعب الفلسطيني وقضيته المقدسة.
انكم لا تهملون ولا تنسون. تأتون في ميعادكم. تتحملون مصاريف سفركم وتجيئون تأكيداً لتضامنكم مع الشعب الفلسطيني المقهور بالاحتلال الاسرائيلي،
ونستقبلكم رفاق نضال في مسيرة طويلة لإنهاء عصر الظلم والقهر والعنصرية واحتلال بلاد كانت لشعبها منذ بدء الخليقة وستبقى له مهما امتد العدوان واحتلاله، ومهما تعددت جرائمه الفظيعة في طرد اصحاب الاملاك-اصاحب الارض، وتهديمه بيوتهم ومنع الصلاة في مساجدهم بعنوان المسجد الاقصى، في القدس الشريف.
في هذه المناسبة لا بد من استذكار رفيق نضال غادرنا قبل سنوات، وكان هو الروح والمنظم والراعي لهذا اللقاء السنوي.
قبل عشر سنوات وبضعة شهور التقيت لأول مرة، ذلك المناضل ستيفانو كياريني العظيم الذي تقدمنا فكان رائدنا في احياء ذكرى شهداء صبرا وشاتيلا.
لقد أحيا شهداءنا حتى صار منهم قدم نفسه بصوته الخفيض وقد ظللت وجهه ابتسامة مشعة تنبعث من عينيه الهادئتين: أنا ستيفانو كياريني، من “المانيفستو”، جريدة الحزب الشيوعي الايطالي.
قال كياريني بصوته الخفيض ذاته:
ـ جئنا كي نحضّر بالتعاون مع الأصدقاء، لبنانيين وفلسطينيين، لإعادة إحياء الذكرى التي لا يجوز أن تُطمس بالقصد أو بالإهمال: مذابح صبرا وشاتيلا التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي ومعه بعض المتعاونين اللبنانيين… ودائماً بقيادة ارييل شارون. لا يجوز أن ننسى تلك القافلة الهائلة من الشهداء، بالرجال والنساء والأطفال الذين اغتالهم الحقد والعصبوية التي تداني العنصرية. إنهم شهداء للإنسانية جمعاء، ومن واجبنا أن نستبقيهم في وجداننا حتى نستطيع أن نقاوم في حاضرنا وفي غدنا السفاحين، أعداء الإنسانية الذين لا يتورعون عن دفن الأطفال أحياء، وعن إبادة المئات بل الآلاف لا لذنب بل بسبب من جنسيتهم.
أحسست بشيء من الذنب لإساءة تقدير ضيفي، فحاولت التعويض بأن وضعت نفسي وزملائي في «السفير» تحت تصرفه. أعددنا البرنامج بشقيه الرسمي والشعبي، بالتعاون مع بعض الأخوة الفلسطينيين يتقدمهم الراحل الكبير رفعت النمر وقاسم عينا وجابر سليمان والزميل صقر ابو فخر.
صار لنا مواعيد سنوية مع ستيفانو كياريني الذي لا تستطيع مقاومة اقتحامه كصديق، والذي ينقل إليك عدوى النضال من أجل كرامة الإنسان. كل شهرين أو ثلاثة يأتينا الصوت الذي غدا أليفاً: أنا ستيفانو، كيف حالكم أيها الأصدقاء سنكون معكم مع نهاية الأسبوع.
ويأتي ستيفانو كياريني لمناقشة برنامج الاحتفال السنوي التالي، فينتقل من اجتماع الى آخر، حتى يطمئن الى أدق التفاصيل، ثم يذهب ليعود ثانية قبل الاحتفال بشهر،
وغالباً ما كان يسبق الوفود كي يكون في استقبالهم، فيسهر على تأمين راحتهم.
صار ستيفانو كياريني صديقاً لشعب لبنان كله، وصديقاً للفلسطينيين في لبنان.
وصار وجوده معنا احتفالاً بروابط النضال من أجل الحق والحقيقة وكرامة الإنسان.
كان اللبنانيون عموماً، وغالبية الفلسطينيين (لا سيما الرسميين منهم) والعرب كافة، قد نسوا أو تناسوا بقرار ضمني مذابح صبرا وشاتيلا وضحاياها الذين تتجاوز أعدادهم ألفين وخمسمئة رجل وامرأة، طفل وعجوز، بينهم معوقون وعجزة.
لكن ستيفانو كياريني الذي لم يكن يعرف لبنان إلا في الصور السياحية، ولم يكن يعرف عن فلسطين إلا نضالها من أجل تحرير أرضها ليعود إليها إنسانها، لم ينس هذه الجريمة الوحشية بل جهد لإحياء ذكراها، وأشرك في جهده العديد من المنظمات والجمعيات الأوروبية، فكان «وفده» السنوي يضم ممثلين لها في فرنسا وبلجيكا واسبانيا وأقطار أخرى.
ثم جاءنا الخبر الصاعق: لقد توقف قلب ستيفانو كياريني.
تجمدت يدي على سماعة الهاتف، وتجمدت الكلمات في حلقي، وتجمد بصري على الحائط: الأحزان لا تأتي فرادى! إنه زمن الخسار!
لقد ساعدنا في حفظ شرف الشهادة من أجل القضية المحقة والعادلة، من أجل حق الشعب الفلسطيني في حياة فوق أرضه.
ولقد احتفل معنا مراراً، وقد ملأه الزهو، بالانتصارات المجيدة التي كانت تحققها المقاومة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي للبنان.
وحين أجبرت المقاومة الاحتلال على الجلاء شاركنا ستيفانو كياريني الاحتفال بهذا النصر المؤزر … فجال مع رفاقه المناضلين على كل المواقع التي واجه المقاومون
فيها بدمائهم آلة الحرب الإسرائيلية وانتصروا.
كذلك فقد جاء إلينا، مباشرة بعد وقف النار في أواخر شهر آب 2006 ليؤكد انه ورفاقه لن يبدلوا من موقفهم ولن يتراجعوا ولن يخافوا من مناخ الحرب ومما نثرته اسرائيل من أسباب الموت على امتداد أرض الجنوب (مئات ألوف القنابل العنقودية).
… ولقد صدق ستيفانو كياريني فجاء مع رفاقه وشهدوا لبطولة المقاومة وشهدوا على جرائم الحرب الإسرائيلية ضد الإنسان وأسباب العمران في لبنان.
ستيفانو كياريني في الوجدان الآن.
انه الشاهد والشهيد، مستقره العقل والقلب، الفكر والكتاب والصحيفة المبشرة بغد أفضل للإنسان في كل أرض، بدءاً بالمقدسة فلسطين وانتهاء بها.
أما رفاقه فيواصلون جهدهم المبارك، ويأتون في منتصف ايلول من كل عام ليذكرونا بقضيتنا المقدسة..
ولسوف يقفون غداً او بعد غد عند مقبرة شهداء صبرا وشاتيلا يتلون الصلوات استذكاراً لمن غاب وتجديداً للعهد معهم.. أن يكملوا النضال، ولو بقوا وحدهم!