شحب الضوء، وابتلع النسيان ايام التوهج، لكن الوجدان يقظ، والذاكرة حية بعد، لان صدى “صوت الذين لا صوت لهم” ما زال يتردد في وجدان الناس الذين شكلت لهم تحية الصباح وخط السير إلى الحقيقة لثلاث واربعين سنة (26-3-1974 ولغاية 1-1-2017)
لا حزن، لا وجع على الفراق، لا لوعة ولا أسى: لقد أنجزت المهمة بقدر الامكان، والطريق واضحة لمن يريد اكمال الرسالة.
لم تكن مغامرة طائشة. كانت محاولة جادة، وبالاعتماد على كفاءات مهنية وطموحات جيل جديد من اصحاب الافكار المتحمسة للتغيير، ولمواجهة الناس بالحقيقة لإسقاط الحصانة عن “الكبار” الذين يجتهدون في حبس “الرعايا” في الماضي.
..وكانت محاولة جادة لرفع اصوات المغبونين والمنسيين والمهمشين من ابناء البلاد، وهم بُناتها، لكي لا يبقى في الافق غير صوت السلطة وسوطها، وغير السعي لتجميد الزمن وفرض الأسر على الشمس لتبقى السيادة للعتمة ومعها الظلم والفقر والعوز، بما يعزز من اقتناع السلطة بأنها آمنة .. والى دوام!
صدرت “السفير” في 26 اذار 1974، والبلاد على حافة حرب اهلية..
فلبنان، على الاهمية الدولية لكيانه المصنع بدقة بالغة، أعجز من أن يتحمل اثقال ثلاث “دول” على ارضه الضيقة:
اولها دولته التي ابتدع وجودها، بكيانها الراهن، وجهاتها المتباعدة، وطوائفها المتنابذة، وسلطتها التي تستمد “شرعيتها” من الخارج أكثر من ارادة هذه المجاميع من القبائل والعناصر التي تضيع بين ذكريات السلطنة وقوة الامر الواقع لنفوذ الانتداب الفرنسي… ثم الحنين إلى الوحدة العربية التي استمدت زخماً جديداً من تجرؤ جمال عبد الناصر والضباط الاحرار على اسقاط النظام الملكي في مصر، ومن ثم التصدي للعدوان الثلاثي، وصولاً إلى الانجاز التاريخي بإعلان الوحدة، وقيام “الجمهورية العربية المتحدة” من اندماج مصر وسوريا في 21 شباط 1958.
صدرت “السفير” في 26 اذار 1974 بعد حملة اعلانية من نمط جديد، مختلف عما سبقه، مباشر بإعلان التوجهات العامة للصحيفة الجديدة، من نوع “ضد الظلم والظلام”، “ضد التعمية على الحقيقة لسلب حقوق الناس في بلادهم” الخ..
كذلك افيد من شعارها المبتكر الذي أبدع رسمه رفيق العمر الفنان المصري حلمي التوني، والذي يمثل حمامة طائرة في قلبها دائرة تحمل “برتقالة”: ترمز إلى فلسطين، وتحتها شعارها الاثير
“صوت الذين لا صوت لهم”
“جريدة لبنان في الوطن العربي، وجريدة الوطن العربي في لبنان”
كان الهدف أن تكون جريدة جديدة، جريدة مختلفة، ليس فقط بشعاراتها التي ملأت شوارع المدينة بحمام “السفير”، ولكن بنبرتها التي تميزت بالصدق والشجاعة وكسر الكثير من التقاليد البالية في العمل الصحافي، والاعتماد على جيل شاب يضم العشرات من الصبايا والشباب الممتلئ حماسة والطامح لان يشارك في التغيير وكسر الكثير من التقاليد البالية والجمود والخوف من الحقيقة أكثر من الخوف من السلطة.
ولقد حققت الحملة الاعلانية التي سبقت صدور “السفير” نجاحاً عظيماً، خصوصا وأنها كانت مبتكرة بالفعل، وتعتمد اساسا على رفوف الحمام وهي تتطاير في الاجواء، وقد يحط بعضها في المواقع ذات الرمزية وطنياً وقومياً، ومعها الشعار الأثير: “صوت الذين لا صوت لهم”.. وكان الاطفال، على وجه الخصوص، يقفزون ويصفقون طرباً وهم يرون رفوف الحمام تتطاير فوق شعار “السفير”.
حققت “السفير” نجاحاً ممتازاً ربما لأنها لبت طموح الناس إلى جريدة مختلفة: اكثر شجاعة، اكثر اهتماماً بالشؤون العربية، وتحديداً بقضية المقاومة، فلسطينية، ومن ثم لبنانية، ضد الاحتلال الاسرائيلي.. وهكذا تصدرت الصحافة اللبنانية منذ عددها الاول، واستقطبت اهتماماً عربياً واسعاً، خصوصا وان اسرة تحريرها كانت تضم نخبة من المحررين والرسامين المبدعين، كما كان عنصر الشباب اساسياً في تكوين اسرتها.. وقد اسعد قدامى الزملاء انهم قد خرجوا جيلاً جديداً من الصحافيين والصحافيات والمتحمسين والمتحمسات والمتحررين من ضغوط الطبقة السياسية بمختلف رموزها وتوجهاتها..
بعد سنة الا قليلا، وقع اغتيال المناضل معروف سعد في صيدا..
وكان ذلك اول انذار بقرب تفجر الحرب الاهلية وانقسام اللبنانيين حول وجود المقاومة الفلسطينية في لبنان، وانطلاق فدائييها من بعض أنحاء الجنوب لكي يضربوا داخل فلسطين المحتلة قواعد جيش الاحتلال الاسرائيلي وبعض قواعده العسكرية.. ثم وصل الأمر الى اختطاف الطائرات الاسرائيلية في مطارات أوروبية، للمطالبة بالإفراج عن أسرى فلسطينيين في سجون دولة الاحتلال.
… وفرضت الرقابة على الصحافة، وتولى جهاز الأمن العام “تنقيب” الصحف و”التدقيق” في معاني الكلمات والصور ورسوم الكاريكاتور.. وصار على الصحافيين ابتكار الأساليب والتوريات والاستعانة بالمقدسات وبعض رجال الدين لتمرير ما تمنع الرقابة نشره من الأخبار والتحليلات وتصريحات السياسيين بذريعة منع الفتنة والحرص على الوحدة الوطنية.
وحين وصلت قوات الاحتلال الاسرائيلي الى بيروت، مروراً بالقصر الجمهوري في بعبدا، قرر الصحافيون تجاوز الرقابة لكي يؤدوا واجبهم الوطني في مقاومة الاحتلال وفضح العملاء من اللبنانيين والفلسطينيين المتعاونين معه.
هذه نبذة مختصرة عن السنوات الأولى من حياة “السفير” التي امتدت في قلب الصعوبة حتى اليوم الأول من سنة 2017، ثم أغلقت أبوابها بعددها الأخير، مودعة جمهورها الذي وقف معها وساندها ودعمها في مواجهة الظلم والظلام ومحاكمات الافتراء.
اللهم أشهد، اني قد بلغت..
تحية لكل من قرأ “السفير” ووقف معها في المحن العديدة التي تعرضت لها ـ وبينها نسف مطابعها، ومحاولة نسف رئيس تحريرها، ثم محاولة اغتياله فجر يوم الثلاثاء في 14 تموز 1984 أمام باب منزله، ومعه سائقه فؤاد اللبان.. والمرافق حسن علوش، وقد منَّ الله علينا بالسلامة..
.. وها نحن نكمل الرسالة عبر هذا الموقع، آملين ان يظل رابطة بيننا وبين جمهور “السفير” التي غابت من المكتبات لتنغرس في وجدان جيل بل جيلين من القراء المؤمنين بالغد الأفضل في ظل حرية الرأي، والأهم حرية الاجتهاد..
أسرة عربية.. وشابة!
حكم الشعار بناء أسرة “السفير”: “جريدة لبنان في الوطن العربي ـ جريدة الوطن العربي في لبنان”.. وهكذا فان أسرة تحريرها جاءت توكيداً للصدق في هذا الشعار.. وهكذا توزعت المسؤوليات على اساتذة وأصحاب خبرة، بينهم:
- ابراهيم عامر وحلمي التوني (وبهجت عثمان جزئياً) مصطفى الحسيني من مصر.
الأول صحافي متمرس وذو خبرة مميزة في إدارة التحرير، والحرص على الدقة. والثاني رسام معروف وكان يتولى ادارة القسم الفني في دار الهلال، والثالث كاتب موسوعي. - من سوريا: الكاتب المسرحي المميز سعد الله ونوس والكاتب السياسي حسين العودات
- من المغرب العربي: الباهي محمد ـ كمراسل من باريس، وهو مناضل مغربي ومثقف مميز وصديق شخصي للمناضل مهدي بن بركة.
- فلسطين: بلال الحسن في إدارة التحرير، المبدع ناجي العلي، رسام الكاريكاتور الذي لا مثيل له ولا شبيه.
- من شبه الجزيرة العربية: عبد الرحمن منيف الكاتب الروائي المميز، صاحب الخماسية التي تلخص حياة الناس قبل النفط ومعه.
تميزت أسرة “السفير” عند صدورها بحشد من الشباب والصبايا فيها..
ومن بين هؤلاء:
محمد مشموشي وياسر نعمة أسعد المقدم وباسم السبع، جوزف سماحة، حازم صاغية، فيصل سلمان، شوقي رافع، مصطفى كركوتي، يوسف برجاوي واحمد صفاوي وغيرهم كثيرون.
أما من الصبايا فقد تصدرت نجاة حرب، فادية الشرقاوي، وداد ناصر زينب حسون ناهدة منصور ديانا قوصان بهية مروة وحميدة نعنع في باريس وغيرهن كثيرات.
..وظل الباب مفتوحاً امام الراغبين والراغبات في أن يكونوا شهوداً على العصر.