بدأت العمل لإصدار “السفير” متهيباً، اذ أن معظم الستة عشر عاماً من عملي الصحافي قبلها كانت في المجلات الاسبوعية، عدا بضعة شهور ـ مع البدايات ـ في صحيفة محدودة التوزيع تصدر ظهراً.
ولقد طال البحث عن امتياز يومي، ثم اهتدينا إلى “السفير” وكان امتيازها أسبوعيا، ثم تنازل لنا الزميل علي بلوط عن حق الصدور اليومي لجريدة “الدستور” كان يملكها، وهكذا صار امتياز “السفير” صالحاً لجريدة يومية.
كان صاحب امتياز “السفير” الياس الحويك، شقيق البطريرك الحويك، وهو مثقف كبير ولا يبارى في عشقه للغة العربية وحرصه على صرفها ونحوها والتفعيلات… ولقد امتحنني في اللغة، ثم طلب أن تكون له زاوية يومية في الصفحة الاخيرة تحت عنوان “قل ولا تقل”.. وكان أكثر ما يزعجه بعد اصدرانا “السفير” أن يكتشف غلطة او أكثر في اللغة وتفعيلاتها.
بعد “الامتياز” كان عليّ المباشرة في اختيار من يعمل معي في الإعداد لإصدار هذه الجريدة التي كنت أحلم وأعمل لان تكون “جديدة” و”مختلفة” وواضحة الهوية.. وكان بديهياً أن أستعين بمن عرفت من الزملاء، لا سيما في مجلة “الحرية”، التي كانت لسان حال حركة القوميين العرب، فلما استيسر التنظيم ضاعت هويتها او انها اختلفت بحيث انكرها جمهورها السابق وبات لها جمهور من طبيعة أخرى من ذلك الجيل الذي استيسر حتى نسي عروبته.
هكذا جاء معي إلى التجربة الجديدة بلال الحسن، الذي غدا مديراً للتحرير. وياسر نعمه الذي تولى المهام الادارية للتأسيس لسنوات قبل أن يصير المدير العام، بعد المرحوم اسعد المقدم والزميل الذي اخذته الوزارة من الصحافة محمد المشنوق.
ذرعنا بيروت طولاً وعرضاً لاستئجار مكاتب للصحيفة الجديدة، لكن اصحاب العمارات كانوا يرفضون مجرد مناقشة الامر. فالصحف جلابة مخاطر (نسف، اغتيال او افلاس نتيجة العجز المالي).
أخيراً وفقنا بالاهتداء إلى الحاج عيسى مكي الذي وافق على تأجيرنا شقة في عمارته السكنية ـ التجارية، سرعان ما اضيفت اليها شقة ثانية بعد سنة، وشقة ثالثة بعد ثلاث سنوات، قبل أن ننتقل بـ”السفير” إلى بنايتها الحالية التي كانت “شققاً مفروشة” يديرها مقامر استغفل مالكيها الشبان بالنساء والعاب القمار.. وكان علينا أن ننظفها ونطمئن الجيران منهم العائلات إلى أن المبنى سيكون لجريدة يحبونها، حتى لو افترض البعض انها ستكون مصدر خطر عبر استهدافها بسبب خطها السياسي.
ولأنني أعرف، بالتجربة ـ أن المطبعة “عنصر امان” فقد وفقت إلى شريك شاب، هو ايلي ربيز، كانت لديه مطبعة تقليدية عند محطة غراهام، فاشتريت “غوس” تطبع الصحف وتوسعت اعماله فتحولت الشراكة إلى صداقة.
على امتداد شهور عملت على تكوين اسرة من المهنيين، مع اضافات من الكتّاب والمثقفين، ولقد استعنت بعدد من الزملاء الاصدقاء في مصر، ابرزهم الفنان ـ الرسام ـ المخرج حلمي التوني، احد اركان اسرة دار الهلال، الذي وصل في الايام الاخيرة قبل الصدور حاملاً الشعار: الحمامة باللون البرتقالي، وهي ترمز إلى التواصل (البريد الزاجل) كما يرمز لونها إلى فلسطين… واستكملنا الرسم بعبارة “صوت الذين لا صوت لهم”، ثم باشرنا انتاج الاعداد ـ الصفر، عبر موجة من النقد والنقد الذاتي ضمنت تدارك العديد من اخطاء التجربة، وتأكيد الشخصية الجديدة والمستقلة والمميزة لـ”السفير”.
نجحنا في إطلاق حملة اعلانية مميزة تركز شعارها على “الحمامة”، ولقد لعبت هذه الحملة التي جذبت الجمهور، لا سيما الشباب والاطفال، دوراً في “خلق” تعاطف وتوقع طيب لمستقبل الجريدة الجديدة.
وبرغم تعثر طباعة العدد الاول في مطبعة صنين، الجديدة، ثم في مطبعة “نداء الوطن” في محلة الروشة، فقد كان الجمهور المحتشد امام المطبعتين كفيلاً بتعويض هذا التعثر وتقدم “السفير” إلى الصف الاول بين الصحف اليومية، مما اكسبني جميل الزميل الكبير غسان التويني الذي دعاني إلى غداء كانت وجبته الحاحه في سؤالي عن سر نجاح “السفير” منذ عددها الاول… وكانت تلك اول شهادة تقدير ننالها.
*****
كانت هوية “السفير” السياسية واضحة منذ عددها الاول، فلم يكن لدينا ما نخفيه او نموهه ونحاول التغطية عليه: نحن “صوت الذين لا صوت لهم”. لذلك وقفنا مع المطالب الشعبية بما في ذلك الاحتجاج بالإضراب او التظاهر (خمسة وعشرون الفاً في مسيرة الرغيف).
كان بين اهدافنا حماية المؤسسات العامة، وتحديداً الضمان الاجتماعي الذي كان يفترض أن يكتمل بتولي “مكتب الدواء” (الذي لم ير النور، لان اربعمئة مليون ليرة وقف اصحابها في وجهه، على حد تعبير الرئيس الراحل فؤاد شهاب)..
كذلك فقد اعتبرنا أن من واجبنا حماية النقد الوطني ممثلاً بمصرف لبنان، ومعه شركة طيران الشرق الاوسط، باعتبارها خط التواصل بين لبنان المقيم ولبنان المغترب وصلة اتصال بالدنيا.
وبطبيعة الحال فقد كانت “السفير” منحازة إلى الفقراء وابناء الطبقة الوسطى، ومعنية بأبناء “المجاهل” الساقطة من ذاكرة الدولة وبينها البقاع والجنوب والشمال وضواحي بيروت.. وهكذا حاولنا أن نعطي “الشعب” حقه، ومن هنا كانت حملة “السفير” لحماية نهر الليطاني، شريان الحياة الممتد بين أقصى البقاع عبوراً به وبمناطق عديدة في الجنوب حتى مصبه في القاسمية، بين صيدا وصور.
ولعل وضوح الهوية والتوجه كان بين اسباب النجاح الملفت لهذه الصحيفة الجديدة التي لم تكن الأغنى تمويلاً او الاعرق تاريخاً.
ووضوح الهوية كان السبب المباشر في تحرك المتضررين من هذا التوجه، بحيث رفعت ضد “السفير” مجموعة من الدعاوى قبل أن تُصدر عددها العاشر.
ولعل وضوح الهوية هو الذي حمى “السفير” وزاد من انتشارها ومن قدرتها على التأثير، خصوصاً وانها كانت “جديدة” في خطها السياسي الذي لا يعبر عن ذاته بالخطابة والتهويل والمبالغة بل بالجدية والرصانة والمسؤولية الكاملة عن دقة ما تنشره وصحة ما تثيره من قضايا تهم الناس.. كل الناس.
وهكذا احتلت “السفير” مكانها ومكانتها إلى جانب “النهار” العريقة، وأثارت اهتمام اهل السياسة، احزاباً وشخصيات، ونقابات عمالية واتحادات مهنية واجتمع في مكاتبها اركان الاتحاد الوطني لطلبة لبنان بقيادة المرحوم انور الفطايري وحركة الوعي التي كان يمثلها الدكتور عصام خليفة، اطال الله عمره.
*****
كانت مقدمات نجاح “السفير” متوفرة موضوعياً:
فالأمة ما تزال تعيش مناخات حرب تشرين ـ رمضان ضد العدو الاسرائيلي، التي حققت نجاحاً باهراً في الايام الأولى فاخترق الجيش المصري خط بارليف عابراً قناة السويس ببطولة مميزة، كما تقدم الجيش السوري حتى طرف بحيرة طبريا، مستعيداً الجولان كله.. ثم كانت مفاجأة السادات التي قصمت ظهر الجيشين، اذ وافق على وقف إطلاق النار بعد ان فرض الجمود على قواته المتقدمة في سيناء، تاركاً لأرييل شارون فرصة الالتفاف عليها وانهاكها حتى بلغ الضفة الغربية لقناة السويس واحتلال بعض مدنها… في حين كان على الجيش السوري أن يكمل الحرب وحده وقد تفرغت له القوى الضاربة لجيش العدو الاسرائيلي، مما عرضه لخسارة العديد من الواقع التي كان قد حررها… ثم جاء وقف إطلاق النار حاسماً أثار الانتصارات، وان كانت هذه الحرب قد أكدت القدرة على إلحاق الهزيمة بالعدو الإسرائيلي اذا توفرت القيادة المؤهلة، وطنياً ثم على المستوى القومي ..
لكن ذاك حديث آخر ..
بعد فترة قصيرة انضم الى أسرة “السفير” زميل قدير وصاحب تجربة مميزة هو الصحافي المصري الكبير ابراهيم عامر الذي كان قد ترك القاهرة وجاء الى بيروت ليكون مراسلاً لصحيفة يوغسلافية كبرى.
كسبت شخصياً، معلماً مهنياً محترفاً، مستقل الرأي، عظيم الثقافة، دقيقاً في عمله الى حد منهك، ودوداً، سرعان ما تحول الى قاضي الغرام في أسرة معظم عناصرها من الشباب، مما عجل في عقد العديد من الزيجات بين الزميلات والزملاء العاملين من أجل الغد الأفضل.
كذلك فقد جاء الى “السفير” زميل ممتاز، بخلقه وكفاءته ودأبه هو ميشال حلوة الذي تولى مسؤولية المحليات..
.. صارت “السفير” مدرسة للكادرات الجديدة، ففيها مجموعة من الأساتذة المتقدمين مهنياً والمتكاملين عربياً، ابراهيم عامر، حلمي التوني، من مصر، بلال الحسن وتوفيق صرداوي من فلسطين، ميشال حلوة ومحمد مشموشي يتلمذ على يديهما، جيل جديد يتمثل في باسم السبع وفيصل سلمان ومجموعة من الزميلات بينهن نجاة حرب وزينب حسون ووداد برجاوي وأخريات.
ولقد شهدت “السفير” مجموعة زيجات بين الزملاء والزميلات، وكان ابراهيم عامر قاضي الغرام، وكان مكتبه مهبط التنهدات والدموع والآهات.
ولقد جاء إلى “السفير” شابان موهوبان لكل منهما موقفه السياسي: جوزف سماحه، المتحدر من منظمة العمل الشيوعي، وحازم صاغية “التجريبي” والباحث عن يقين بين الحزب السوري القومي وبين التشيع، لاسيما بعد زيارة لإيران الثورة.
نشأ جوزف وحازم في بينو ـ عكار، بلدة ام جوزف ومسقط رأس حازم وعائلته اساسية فيها .. وكانا صديقين حميمين على تعارض موقفهما السياسي.. كما كانا نهمين إلى الثقافة يقرآن ولا يتعبان.
وفي “السفير” تعارف حازم صاغية ونجاة حرب واقترنا في سلسلة افراح بين الزملاء الذين كونوا اسرة واحدة برعاية حارس العشاق ابراهم عامر.
بالمقابل برزت بين صبايا “السفير” نجمة صبح خارقة الشجاعة اسمها فادية الشرقاوي، وقد اصرت على تغطية معركة الفنادق الدموية، وحين لامها مدير التحرير على استمرارها في العمل “على الجبهة” إلى ما بعد منتصف الليل فاجأته بسؤالها: ماذا تراني اعمل؟ الست صحافية، وهذا بعض واجبي؟!
******
لنعد الى السياسة والمهنة: نجحت “السفير” في استقطاب ذلك الجمهور العظيم الذي لا يُسمع صوته، فكانت منبره وصوته وأداة التنبيه الى الخطأ والتقصير، بقدر ما نجحت في أن تكون جريدة الجيل الجديد، تحمل آماله وطموحاته وتعبر عن تطلعاته الى مستقبل أفضل.. وبالتالي فقد استقطبت “القوى الحية” في المجتمع، اليسارية عموماً والقومية خصوصاً، وهي هي القوى الوطنية التي يمكنها بناء المستقبل الأفضل لو سمح لها بحيازة هذا الشرف.
ولم يكن هيناً النجاح في توسيع دائرة القراء، واكتساب مساحات جديدة في “المناطق” البعيدة عن العاصمة، الشمال والجنوب والبقاع فضلاً عن ضواحي بيروت التي وجدت أخيراً صحيفة تهتم بالمليون أو المليونين من أهلها وسكانها القادمين من أريافهم، يحيط بهم مناخ من الغربة، والتمييز بين أهل المدن وأهل الريف
ولقد تجاوزت “السفير” بخطها ونهجها واهتماماتها، وتركيبة أسرتها النطاق المحلي، وصارت “صحيفة عربية معروفة” لمن يسمع عنها ولا يقرأها، أو يسمع بها عبر مقتطفات تأخذها عنها الإذاعات، مسموعة ومرئية، وكذلك الصحف العربية.
وانطلقت ومعي عدد من الزملاء الى محاورة أصحاب الحل والعقد، في لبنان أساساً، والقيادة الفلسطينية التي كانت قد استقرت في عاصمته اخيراً، فضلاً عن دمشق وبغداد والقاهرة والكويت والدوحة وصنعاء وطرابلس الغرب في ليبيا بقيادة عقيدها معمر القذافي الذي بدأ محاوراً “ممتازاً” وانتهى قائداً طامحاً الى موقع “النبي”.
أما في لبنان فقد لفتت “السفير” انظار السياسيين كافة، من أهل اليمين كما من أهل اليسار، خصوصاً وهي قد قصدت الجميع فحاورتهم جميعاً، ولو من موقع المختلف متيحة للجميع أن يعبر عن رأيه بغض النظر عن مدى موافقتها أو اعتراضها على هذا الرأي.
على أن مقدمات الحرب الأهلية التي يمكن أن يكون عنوانها جريمة اغتيال الشهيد معروف سعد لم تترك المجال مفتوحاً أمام “السفير” لكي تكمل رحلتها في قلب النجاح .. إذ سرعان ما خيمت مناخات الحرب الأهلية، مع حادث بوسطة عين الرمانة، ثم ما تلاها من اشتباكات متقطعة بين العديد من الأطراف والقوى السياسية اللبنانية التي لكل منها مرجعية في الخارج، لا يهم ان كان قريباً أو بعيدا.
ولم تترك هذه المقدمات مساحة للحياد أو الموضوعية أو النزاهة في الأخبار أو التحليل أو التحقيق، لكن الحكم المسبق كان يحاسب الكاتب والصحيفة من خلال تخمينه (أو معرفته) طائفة الكاتب أو الصحافي أو المفكر صاحب الرأي.
بينما كانت ترسبات أو نتائج زيارة الرئيس المصري أنور السادات الى الكيان الإسرائيلي والاتفاقات أو معاهدة الصلح التي عقدها مع أركان الاحتلال الصهيوني لفلسطين العربية، وخروج مصر من دائرة الصراع العربي ـ الإسرائيلي .. كل ذلك قد خلق مناخاً مسموماً وصراعات في غير الميدان الأصلي مما سيترجم لاحقاً عبر الحرب الأهلية التي تحرق أول ما تحرق الأفكار والكتب والآراء المستقلة والنزاهة في الرأي والشجاعة في قول الصح … وتكون الصحافة أول ضحاياها.
وللحديث صلة.