تغري احوال البؤس والضياع التي تعيش في ظلالها عرب هذه الايام بمراجعة ولو متسرعة لعلاقتهم بالعصر، واجتهادهم في مقاومة التتريك في العهود الظلامية للاستعمار العثماني، قبل أن تأخذهم الغفلة ونقص المعرفة بالتحولات الدولية في اعقاب الحرب العالمية الأولى، إلى الاستعمار الغربي، (او تأتي به إليهم) احتلالاً او انتداباً عبر تقاسم المشرق العربي جميعاً بين بريطانيا وفرنسا.
وبرغم انهم كانوا خارج العصر علماً ومعرفة فهم قد قاوموا وقاتلوا “الاستعمار الجديد” الفرنسي في ميسلون عند ابواب دمشق، ثم قاوموا تقسيمه سوريا إلى أربع دويلات على قاعدة طائفية ومذهبية، وواجهوه بثورة شعبية مسلحة قادها سلطان باشا الاطرش ومجاميع من المناضلين سنة 1925، لا سيما بعد قصف دمشق ومحاولة تدمير مبنى مجلس النواب.
كذلك فقد ثار شعب العراق في مواجهة الاحتلال البريطاني (ثورة 1920) قبل أن يأتي هذا الاحتلال بفيصل الاول ابن الشريف حسين (مطلق الرصاصة الأولى ايذانا بإعلان الثورة العربية الكبرى)، وقد انتقل الامير الهارب من الاستعمار الفرنسي في سوريا ليصيره البريطانيون ملكاً على العراق، استرضاء للثوار بالنسب الشريف، بينما اختاروا شقيقه عبدالله ابن الشريف حسين اميراً على دولة تم اختراعها باقتطاعها من ارض سوريا لتكون “الامارة الاردنية الهاشمية”، قبل أن تحولها نكبة فلسطين إلى مملكة هاشمية تحت الانتداب البريطاني… قبل أن يتم اغتيال هذا الملك اثناء زيارة له إلى المسجد الاقصى في القدس الشريف.
أما الجزيرة والخليج (السعودية والكويت ودولة الامارات التي ابتدعت في اواخر الستينات) فقد كانت تحت الحماية البريطانية، وان كان النفط الذي بدأ بالتدفق من رمال الصحراء في تلك المنطقة قد جاء بالأميركيين اليها تدريجياً، وعبر شركة التابلاين الاميركية، بينما كان البريطانيون قد وضعوا ايديهم على نفط العراق، بالشراكة مع فرنسا قبل أن يخرجوها ليستقلوا بها.
وفي حين كانت شركة نفط العراق قد جاءت بالذهب الاسود من العراق إلى مصفاة ابتنتها في منطقة “الدعتور” قرب طرابلس في شمالي لبنان..
فان شركة “التابلاين” الاميركية سوف تلحق بها فتبني مصفاة للنفط في منطقة الزهراني، قرب صيدا..
ولقد تسببت هذه الاكتشافات النفطية وتمديد انابيبها إلى الساحل اللبناني في اول انقلاب عسكري شهدته سوريا بقيادة الضابط الذي جعل نفسه ماريشالاً: حسني الزعيم.
في 2 تشرين الثاني 1917، وقبيل نهاية الحرب العالمية الاولى بانتصار “الحلفاء” على المانيا وتركيا، كان وزير خارجية بريطانيا اللورد بلفور قد أطلق “وعده” للحركة الصهيونية بقيادة هرتزل بأن تكون فلسطين ” وطناً قومياً ليهود العالم”.
ولم يعرف العرب بهذا “الوعد” الذي يقضم فلسطين من ارضهم وبلادهم الا مع قيام الثورة البوليشفية (الشيوعية) في روسيا القيصرية، بقيادة فلاديمير ألييتش أوليانوف المعروف بـلينين في مثل هذه الايام من العالم 1917 لتكشف التآمر البريطاني الفرنسي على اقتسام المشرق العربي، و”منح” فلسطين للحركة الصهيونية لتقيم فوقها “دولة اسرائيل”..
ولسوف يبقى الانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان حتى منتصف الاربعينات (1920 ـ 1943) وانسحبت القوات الفرنسية كليًا بحلول 17 نيسان 1946 (وهذا التاريخ يسمى عيد الجلاء في لبنان وسوريا احتفاءً بجلاء آخر جندي استعماري عن البلاد).
أما البريطانيون فلسوف يبقون ظلهم فوق العراق حتى ثورة 14 تموز 1958 التي قادها الزعيم عبد الكريم قاسم بالشراكة مع العقيد عبد السلام عارف، والدعم المفتوح بل المبالغ به من الشيوعيين العراقيين وتحرك الاكراد بقيادة زعيمهم مصطفى البرازاني الذي كان الحكم الملكي قد نفاه فالتجأ إلى الاتحاد السوفياتي وبعض الدول الاشتراكية.. وقد تم تحريك المذهبية والعنصرية ضد ثورة 14 تموز العراقية، ولعبت “الدول على مطامح عبد الكريم قاسم الذي سرعان ما عزل عارف، ثم خاصم رئيس دولة الوحدة”، الجمهورية العربية المتحدة، التي كانت قد اقيمت بقيادة جمال عبد الناصر بعد موقف نبيل للرئيس السوري شكري القوتلي (الذي اعتزل العمل السياسي بعدها، وذلك قبل شهور قليلة من 14 تموز 1958، وبالتحديد في 22 شباط 1958.
في هذه الاثناء كانت الولايات المتحدة تتقدم لتأخذ “حصتها” من المشرق العربي في اعقاب الحرب العالمية الثانية، التي تم مع نهايتها اجتماع في البحيرات المرة في قناة السويس، “اجتماع تاريخي” بين الرئيس المقعد (على كرسي نقال) والملك عبد العزيز آل سعود لتكريس سيطرة التابلاين على نفط المملكة، بينما كانت بريطانيا العظمى تسيطر على نفط العراق… ثم تحالفت الدولتان معاً لاقتسام النفط والغاز في الخليج العربي، وتمهيداً لهذا الغرض تم توزيع هذه الثروات الخرافية مع حفظ الحصة العظمى للأميركيين، وهكذا نال البريطانيون، في البداية، حصة في نفط المشيخات الخليجية السبع التي جمعت في “دولة الامارات العربية المتحدة”.. وظلت قطر خارج هذا الاتحاد حتى اذا تفجر في شواطئها الغاز بكميات مهولة، فاذا بها تصبح “دولة قائدة”.. وربما من اجل حماية “استقلالها” تفردت من بين الدول العربية (عدا مصر) بالاعتراف بدولة اسرائيل وإقامة علاقات دبلوماسية معها.
أما البحرين التي كانت فيها قاعدة عسكرية بريطانية فقد رحبت بقاعدة ثانية للأسطول الاميركي السابع (مباشرة بعد نجاح الثورة الاسلامية في إيران بقيادة الامام روح الله الموسوي الخميني، وخلع الشاه ومحاسبة بطانته وسحب الاعتراف بإسرائيل وتسليم سفارتها الممتدة بطول شارعين والتي كان بها إضافة إلى جهازها المباشر أكثر من خمسمائة “خبير” اسرائيلي موزعين على الوزارات كافة، لا سيما الزراعة).
للإيجاز نذكر فقط ببعض محطات التراجع العربي وفتح ابواب معظم العواصم امام الهيمنة الاميركية التي وفرت للعدو الاسرائيلي مناخ “الصلح”، مباشرة، كما هو مع قاهرة السادات وعمان الملك حسين، أو بشكل تدريجي مع قطر (وسلطة عُمان) وعواصم عربية أخرى، كما يزعم بنيامين نتنياهو.
إن العدو الاسرائيلي يتصرف ـ بدعم أميركي مفتوح ـ لطمس الهوية العربية التي عاشت، منذ الفتح الاسلامي، ارضاً عربية بشعوب عربية تحتضن اقليات قومية ودينية من غير العرب المسلمين (كما مع اقباط مصر ومسيحيي لبنان وسوريا والعراق ـ الحافل بالأقليات الطائفية والعرقية ـ عربياً وكرداً وسرياناً وازيديين وسومريين وطوائف أخرى).
وبالطبع فان اليهود العرب كانوا مواطنين طبيعيين موفوري الكرامة والحقوق في كل من (مصر وسوريا ولبنان والعراق وصولاً إلى اليمن..) ثم اغوتهم الانتصارات الاسرائيلية ومعها الضغوط عليهم، ومعها ايضا تسهيلات اميركية مع اللوبي الصهيوني (وتنازلات او تجاهل من طرق الانظمة العربية) حتى دفعتهم إلى الكيان الإسرائيلي.. ليقاتلوا شعوب هذه الارض التي احتضنتهم كمواطنين وامنت على حياتهم واموالهم بعد اقامة “الكيان الاسرائيلي” على ارض فلسطين.
..وها أن اسرائيل اليوم، بالدعم الاميركي المفتوح والتنازلات العربية المفتوحة تقدم نفسها للعالم كقوة عظمى في هذه المنطقة بعدما نجحت في الانتصار بالحرب والدعم الاميركي المفتوح على الانتصار على العرب ( وبالذات سوريا ومصر).. ولم تهزم الا مرة واحدة حين اضطرت إلى اجلاء قواتها عن لبنان في ايار العام الفين، ثم كانت الهزيمة الاعظم دوياً والأخطر في نتائجها في حرب تموز ـ آب 2006 على لبنان، والتي انتهت بخروجها بغير انتصار، للمرة الاولى في تاريخها.. وان كانت قد استعانت بالتواطؤ الدولي لتمرير القرار الاممي 1701، الذي تجاوزته الأحداث.. وان كانت ادعاءاتها تتعاظم عن اختراقها “السلمي” للعديد من الاقطار العربي، بالمعاهدات المعلنة او بالعلاقات السرية.
برغم هذا كله فان الانتفاضة المجيدة للشعب الفلسطيني لم تخمد، وما زالت العمليات الفدائية ضد قوات الاحتلال مستمرة.. ويعود المتظاهرون كل يوم، في غزة، إلى ديارهم وهم يحملون شهداءهم وجرحاهم، ليرجعوا في الجمعة التالية إلى الميدان .. وما بدلوا تبديلا!
تنشر بالتزامن مع السفير العربي