بهي حضورك في لحظة الغياب، يا أبا هشام.
جاء الكل الى من كان كلهم: الأهل من شمسطار وجوارها الممتد عبر لبنان شمالاً حتى آخر جامعة في دمشق وحلب واللاذقية، وشرقاً حتى آخر منتدى في الجزيرة والخليج، وجنوباً الى قلب المقدسة فلسطين وعبرها الى مصر المحروسة وما امتد بعدها حتى المغرب الأقصى.
الكل هنا، وعائلتك القلب، وسيرتك الكتاب، أما الحاضنة فالجامعة الوطنية التي أسهمت في تدعيم ركائزها لتتسع لطموحات الأجيال الجديدة المتطلعة الى الغد الأفضل بالعلم والكفاءة لا بالمحسوبية والرشوة والنفاق والارتهان لزعماء الطوائف والمذاهب.
هذه جامعتك، نتلاقى من حولك فيها، طالباً وأستاذا ومديراً ورئيساً.. وهؤلاء بعض البعض من أصدقائك الكثر، يا من عشت عمرك كله ثم رحلت وليس لك خصوم أو أعداء إلا من خرج على وطنه فأخرج نفسه من قائمة من يستحقون شرف الصداقة.
أيها الخفير الذي صار وزيراً وظل هو هو، ودوداً، طيباً، لا يتنكر لأصله ولا يزوّر هويته ادعاء لنفي منبته في شمسطار التي كان الكثيرون يستهجنون اسمها ويضحكون منه، ثم قبلوه على مضض، قبل أن تجعله مع سائر الطليعيين من رفاقك اسم علم بفضل النجاح الباهر المغلف بالدماثة المعتقة.
أيها الطالب الذي طرزت بقدميك الطريق بين الضاحية والمطار، وثانوية البر والإحسان في الطريق الجديدة، ثم كلية الحقوق في اليسوعية بداية ومن ثم كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية في الصنائع، قبل أن تدخل جنة القضاء لتعيش عبرها نتاج جهنم الحرب الأهلية.
يا أبا هشام.
لم تهنأ شمسطار التي احتفت بك قبل شهور قليلة عضواً في المجلس الدستوري، فأهلك بالكاد فرغوا من تبادل التهاني بأنك قد أثبت جدارتهم بأن يكونوا بين بناة المؤسسات، لو كانت مثل هذه المهمة متاحة ومجازة من طرف الذين أقاموا من أنفسهم بديلاً من الدولة بمؤسساتها جميعاً. ولقد صار بيتك مرادفاً لاسم بلدتك، يتصدرها إعلانا بقدرتها على إنجاب من يستحقون أن يستوطنوا الوجدان حتى بعد الرحيل.
هل تذكر يا أبا هشام؟
قبل أكثر من خمسين سنة باشرنا معاً، يا صديق العمر، العمل لإنشاء النادي الثقافي في شمسطار… وكانت خطوة أولى على طريق الدخول الى العصر.
كنا ندور على دور النشر نتسول الكتب لأول مكتبة عامة في تلك المنطقة التي كانت خارج الذاكرة الرسمية، ولعلها لا تزال… وكان البعض يستعيد اسم شمسطار لكي يحسن نطقه.
وكأي عمل ريادي، كان علينا أن نتحمل التقولات وضروب الاشتباه وعبء الخروج على طاعة الوجاهات المحلية والزعامات التقليدية التي كانت تنتزع الوكالة عنا، ثم تنسانا حتى الدورة الانتخابية التالية.
وكنت المحاور الهادئ.. تخفف من غلوائنا، نحن الفتية المتعجلين نفض أسار التخلف عن كواهلنا، والخروج من سجن العشائرية والإقطاع، راعي التخلف وحامي حمى التبعية بالاستناد الى نظام متوحش لم يعترف يوماً بالناس كمواطنين، بل كان وما زال يفرض عليهم أن يكونوا رعايا في منظومات طائفية أو مذهبية تنفي عنهم جدارتهم بمرتبة المواطنين… حتى وهم يستشهدون من أجل تحرير الارض وكرامة أهلها فيها.
وحين نجحنا في استدراج وزيرين صديقين بداية الستينيات الى مجاهل بلاد بعلبك، تزاحم الناس للفرجة على الدولة التي جاءتهم، لأول مرة، بواجهة مدنية!
يا أبا هشام: ما كان أطول الطريق وأشقه، وما أروع الريادة وأمتعها: أن تخرج على الإقطاع، سياسياً أو دينياً، شاهراً حقك في أن تكون أنت، حتى لو تطرف الاتهام فاستحضر من علمنا الحرف الأول ـ في القراءة والسياسة ـ السيد جعفر محسن الأمين الذي لولا إدارته المدرسة الابتدائية لما صارت تكميلية فثانوية، ولما وصلت الى الجامعة طالباً ثم رئيساً.
لقد طلبت العلم فمشيت اليه على قدميك وكأنه، حقاً، في الصين! أحسب مجموع المسافات التي قطعت ساعياً اليه في علياء الصعوبة؟
وانظر الى بعض صحبك هنا، وقد دفعوا أحلى سنوات الشباب في طلب التقدم، بين انتساب الى الجمرك مثلك، أو الى الدرك مثل آخرين هنا، أو هجرة قريبة، تمهيداً لهجرة بعيدة لكي يثبتوا جدارتهم بالتقدم وقد دفعوا نصف حياتهم ثمناً حتى يوفروا لأبنائهم غدهم الأفضل.
وها هم أبناؤك الثلاثة قد وصلوا أعلى مراتب العلم، بسهرك والسيدة والدتهم عليهم، وقد أكدتما فيهم أن الناس الطيبين الذين لا ألقاب لهم إلا ما يكتسبونه بالعلم هم الجديرون بصنع المستقبل الأفضل.
يا أبا هشام: ها نحن نحتفل بك في جامعتك، وقد التف من حولك كل من يشهد على نجاحك في اقتحام الصعب وفي ترك بصماتك فوق العديد من الإنجازات، فصرت الأستاذ والقاضي والرئيس والمشرف بحماية الدستور من المتجاوزين عليه والذين يحاولون خرقه كل يوم بذريعة حماية الديموقراطية أو العدالة أو الوفاق الوطني، فيصرعونه ومعه كل تلك القيم والمطامح المشروعة للناس الممنوعين من أن يكونوا أو يصيروا شعباً.
يا أبا هشام: واجبنا أن نكمل المسيرة، على الطريق، في قلب الصعب، حتى يعترف بنا الوطن الذي سيظل من دون أبنائه مزرعة يختلف أهل الطبقة السياسية على اقتسام خيراتها، فيدفعون بنا الى حرب أهلية اثر أخرى، ليبقوا أسيادا لغدنا ويتركونا بلا غد.
ولسوف نفتقدك أخا وصديقاً ورفيقاً ونقطة مضيئة في أفق المنطقة التي تفخر بأنها أنجبتك فلم تتنكر لها ولم تهجرها، بل كنت تباهي بانتسابك إليها وقد جعلت بيتك المدخل.
يا أبا هشام: شكراً لك.. فقد تركت لنا ما نزهو به بعد الرحيل، بقدر ما كنا نزدهي بصداقتك وأنت تتقدمنا مبتسماً، أيها الذي عشت العمر كله ثم رحلت بلا أعداء.
كلمة القيت في وداع الدكتور أسعد دياب في الجامعة اللبنانية في الحدث في 2010/4/2، نعيد نشرها بمناسبة اطلاق مكتبة اسعد دياب الحقوقية الرقمية في الجامعة اللبنانية.