تظلم الجغرافيا بعض الشعوب، عندما تتدخل السياسة في “تعديلها” واعادة صياغتها بدول لم تكن فيها.. وهناك دول اخرى يظلمها تاريخ “المنتصرين” فيسقطها من ذاكرته.. وللنصر، وفق منطقه، آباء كثيرون اما الهزيمة فيتيمة.
في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، انتهاء بحرب تشرين (اكتوبر) 1973، لم يكن احد يناقش هوية الامة العربية “من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر”.. فالتجرؤ على مجرد البحث يكلف صاحبه تهمة “الخيانة” أو “الردة” والخروج على ارادة الامة..
ومن قبلها كان التوحد في مواجهة العدوان الثلاثي (1956)، ثم في مواجهة “النكسة” مشفوعة باستقالة جمال عبد الناصر من منصبه (1967) بين الشواهد القاطعة على وحدة الامة بمختلف اقطارها، وعلى اختلاف اعراق مواطنيها الذين وحدتهم “العروبة”، كلما تهددها الخطر من خارجها، او حتى من داخلها.
اما مع الهزيمة التي تبدت وكأنها منطلق للانتصار في حرب 1973 ثم تكشفت تداعياتها افتراقاً بلغ حافة الخصومة، بعد قرار المباشرة فيها معاً حتى نهاياتها المرجوة انتصارا، فاذا بالشريكين بالدم في مواجهة العدو مصر وسوريا “يتخاصمان” ويتبادلان الاتهامات بالتخلي وخيانة الاخوة او التسبب في اغتيال النصر المؤكد.
ولقد سمحت لي ظروف عملي الصحافي أن أتجول طويلاً في هذا “الوطن العربي”، فعرفت اقطاره كافة، وتجولت في انحائه شرقاً وغرباً، وحاورت مسؤوليه، رؤساء وملوكاً، وتعرفت إلى أدبائه الكبار، روائيين وشعراء وقصاصين، وتجولت في شوارع مدنه وزرت العديد من ارياف البلاد، والتقيت الناس على اختلاف اعراقهم (العرب والكرد والسريان والكلدان في سوريا والعراق) ثم العرب والبربر او الشاوية في الجزائر والمغرب.. كما عرفت كثيراً من قادة الاحزاب الحاكمة والمعارضة فحاورتهم وناقشت افكارهم.
من هذه التجربة وعبرها عرفت او تأكدت أن للنصر آباء كثيرين اما الهزيمة فيتيمة..
اما منها ومن خارجها فقد علمنا التاريخ، والتاريخ العربي ـ الاسلامي بالذات، أن العرب والكرد اشقاء، مثلهم مثل العرب والبربر. واذا ما ارجأنا الحديث عن بربر الجزائر والمغرب، واكتفينا بالمشرق لتأكدنا ـ بالمعايشة كما بالتاريخ ـ أن العرب والكرد اشقاء وشركاء في صنع مرحلة مضيئة عبر صد الحروب الصليبية والحاق الهزيمة بها، وطرد جيوشها من المشرق العربي بأقطاره كافة: مصر وفلسطين (اساسا) وسوريا ومعها لبنان.
ولقد نشأت اجيالنا، عبر مئات السنين، على اعتبار صلاح الدين الايوبي بطلاً قوميا، ولم يسقط اعجابنا بدوره في حطين واستعادته القدس من الصليبيين عندما عرفنا انه “كردي”.. ومثله الكثير من القادة العسكريين والزعماء السياسيين الذين شغلوا مناصب قيادية في التاريخ العربي والاسلامي.
وفي حاضرنا ومعه ماضينا القريب، على امتداد القرن الماضي، لم نفاجأ يوما بأن يكون بعض كبار المسؤولين في الدولتين السورية والعراقية من الاكراد، بل أن من السوريين تحديداً يستذكرون بالتقدير اكثر من رئيس لبلادهم كان من الاكراد. وعموماً كان العرب يرون في ذلك تأكيداً للإخوة ووحدة المصير، ووحدة الامة بعناصرها “القومية” و”الدينية” المختلفة وفيهم الأقباط في مصر، والكلدان والسريان والأزيديون والصابئة في العراق وبعض سوريا وحتى الشركس في الاردن.
كذلك لم نتوقف يوماً امام هوية قادة الاحزاب والحركات السياسية العربية وفيهم المسلم والمسيحي والكردي والسرياني (خالد بكداش في سوريا، عزيز محمد ومصطفى البرازاني وجلال طالباني في العراق، الدكتور جورج حبش ومعه الدكتور وديع حداد من فلسطين ومعهما الدكتور احمد الخطيب من الكويت، ميشال عفلق واكرم الحوراني وصلاح البيطار من سوريا).
عن البرازاني : الأب والأبن!
نسوق هذا الكلام مع “انفجار” المسألة الكردية في العراق نتيجة الغرور الذي اجتاح مسعود البرازاني فجعله يتجاوز اساس التفاهم الذي تم بعد الاجتياح الاميركي للعراق في العام 2003، والذي استعاد تفاهماً سابقاً بين الرئيس العراقي الراحل صدام حسين والزعيم الكردي الراحل الملا مصطفى البرازاني في العام 1970 ونص على أن يكون للأكراد في شمالي العراق نوع من الحكم الذاتي داخل إطار الدولة المركزية في العراق.
وأذكر انني التقيت ذلك الزعيم الذي يبدو وجهه وكأنما قد قُد من صخر، في منطقة جلالا بشمال العراق، داخل المنطقة الكردية، وكان صدام حسين قد أقر ذلك الاتفاق.
يومها سألت الملا مصطفى عن الاتفاق فأبدى سعادته به، مستبشراً بأنه قد يكون مدخلاً لحل المسألة الكردية في العراق الواحد الموحد.
بعدها جرت مياه غزيرة في نهري دجلة والفرات، وانقلب صدام حسين على الاتفاق الذي تم ابرامه، وشن حملات دموية عنيفة على المنطقة الكردية في شمالي العراق مرتكباً مجزرة “حلبجة”، وتعمق الافتراق بين بغداد واربيل.
بعد الغزو الاميركي للعراق واسقاط صدام حسين واعدامه بطريقة من شأنها أن توقظ الفتنة النائمة بين السنة والشيعة، اتفق على نظام جديد اعطى الرئاسة لكردي هو الراحل جلال طالباني، ومعها وزارات عدة بينها الخارجية، فضلاً عن مواقع قيادية في الجيش والأمن الداخلي..
لكن طموح مسعود البرازاني كان يتجاوز هذه الصيغة الفيدرالية، ولقد اغراه بعض الاسناد الاميركي والاسرائيلي (والتركي لأغراض مختلفة تتصل بمطالب اكراد تركيا، وهم يمثلون اكثر من ثلاثة اضعاف اكراد العراق ـ اربعة ملايين تقريباً)، فجنح نحو تحويل “الاقليم” إلى “دولة” مستنداً، بغروره، على ايحاءات اميركية، ومجاملات تركية (بينما انقره تواصل الفتك بأكرادها) وتشجيع اسرائيلي معلن بحضور مباشر في اربيل..
وهكذا فقد اصر البرازاني على اجراء استفتاء يدغدغ احلام اكراده بالاستقلال، مما استفز بغداد، فحركت جيشها واستعادت كركوك (الغنية بالنفط).. ثم وقع التخلي الاميركي بتصريحات قالت فيها واشنطن انها حذرت البرازاني من الانفصال.. وكانت النتيجة أن اخرج الملا مسعود نفسه من “السياسة” تاركاً رئاسة الاقليم لبرازاني آخر..
عن اكراد سوريا والاميركيين..
أما اكراد سوريا فأمرهم مختلف جداً، اذ انهم كانوا على الدوام جزءا من الشعب السوري، ولم يستشعروا يوماً بالتمييز، بدليل أن عدداً من نخبهم شغل المواقع العليا في الحكم بدمشق، بينها رئاسة الدولة وأكثر من مرة.. كذلك كان للأكراد مواقعهم في السلطة (الحكومة، البرلمان، الجيش، الادارة الخ)..
ولقد لحق شيء من الظلم بأكراد سوريا الذين يعيش معظمهم في الاطراف الشرقية ـ الشمالية (محافظة دير الزور، محافظة القامشلي) …ولقد وازدادت اعدادهم بعد لجوء اعداد من الاكراد الاتراك هربا من جور الحكم في انقره، (علماً بأن اكراد تركيا يزيدون اربع مرات على اكراد سوريا وثلاث مرات على اكراد العراق..)
وواضح أن التحرك الكردي في سوريا، ومحاولة الافادة من الحرب فيها وعليها، قد لقي تشجيعاً اميركيا علنيا، خصوصا وانه تجاوز السياسة إلى العسكر، فبعثت واشنطن بقوات برية واسطول جوي عماده الهليكوبتر إلى المنطقة الشرقية من سوريا، وهو الذي “انجز” تدمير مدينة الرقة التي لم يكن فيها اكراد في أي يوم، الا قلة قليلة تعيش في اريافها..
وها أن تركيا قد بعثت بقواتها العسكرية لتقاتل الاكراد في سوريا، مع تجنب الاصطدام بالقوات الاميركية التي تدعمها، لا سيما من الجو.. مما زاد من اسباب التوتر بين انقره ودمشق التي رأت في التصرف التركي عملاً عدائياً يحاول الافادة من المناخ الحربي الذي يشغل سوريا في الداخل.
وهذا يرشح الاكراد لان يتحولوا، مرة أخرى، ضحية لطموحاتهم التي يلعب عليها التدخل الدولي (الاميركي الآن) فيحولها إلى المشاركة حركات انفصالية، علماً بأن مطالب اكراد سوريا لم تتجاوز يوماً حدود السعي إلى قدر من الحكم الذاتي و”الاعتراف” بحوالي نصف المليون كردي يعيشون بلا هوية سورية، نتيجة اهمال مزمن، تمت معالجته بشكل جزئي قبل حوالي عشرين عاماً، لكن ذلك العلاج ظل ناقصاً، وما زال هناك عشرات الآلاف من الاكراد السوريين خارج القيد الرسمي، كمثل “البدون” في الكويت وسائر اقطار الخليج.
الوحدة مع اختلاف العناصر..
بين أن يكون الاكراد شعباً غير معترف به بهويته الاصلية، كما في تركيا، او أن يكون شعباً شقيقاً تقر له الدولة المركزية بحكم ذاتي يحفظ له “هويته” داخل هذه الدولة، ويعترف به كعنصر مكون للشعب في البلد المعني، كما حال اكراد العراق، وان يعترف به ثم يظل الاعتراف ناقصاً سياسيا كما في سوريا، تتجلى مأساة هذا “الشعب” الذي كان “العرب” يعتبرونه منهم خصوصا وقد كان دائماً الشريك في المصير، وأحيانا “القائد”، ولم يستشعر ابناؤه أي قدر من التمييز.
لكن اختلاف العناصر المكونة للشعب الواحد في الوطن الواحد، او الدولة الواحدة، قد يكون عنصر غنى، وتأكيدا للإخوة، وقد يكون عامل افتراق ومدخلاً للنفوذ الاجنبي ضد العرب والكرد على حد سواء.
والامل أن تجد القيادات العربية والكردية صيغاً تؤكد وحدة المصير، في الحاضر والمستقبل، كما تأكدت هذه الوحدة في الماضي ..الاغر!
ينشر بالتزامن مع جريدتي “الشروق” المصرية و”القدس” الفلسطينية