غزة ـ حلمي موسى
نحن في الأسبوع العاشر للحرب. تمضي الأيام حاملة معها أرواحا وأملاكا من جهة، ومثمرة بطولات وصمود من جهة أخرى. وما يبدو في اللحظة الراهنة هو أن اسرائيل أطلقت على قواتها وطريقة خوضها لهذه الحرب اسم “الكسارة” أو ” المطحنة”. والحقيقة أن الحرب قريبة جدا من فعل الكسارات والمطاحن. فالجرافات الاسرائيلية هي أول ما يدخل بعد القصف الجوي والمدفعي المكثف لتجرف الأرض وتتأكد من خلوها من العبوات امام الدبابات والمشاة.
وبالرغم من أن الطائرات الحربية تحيل عمارات الى حفر، فإن الجرافات لازمة أيضا لتحطيم ما لم يتحطم واظهار كل ما هو تحت العمارات في محاولة يائسة للعثور على أنفاق. وقد تم جرف مناطق بكاملها في مدينة غزة، حيث لم يطل الجرف البيوت وحسب، وإنما الشوارع ايضا.
أما عمليات التعرية للبشر التي يراد منها اذلالهم، فهي استكمال لعملية تعرية الحجر والارض. فالاحتلال يسعى لاجتثاث الحياة من الأرض بيوتا وزرعا ويتعمد ازالة التاريخ عبر استهداف الآثار والمباني الاثرية كلّها، ويهدف الى اقتلاع السكان من أماكنهم وجعل حياتهم مستحيلة فيها بعدما عجز عن تهجيرهم وفق خطته الاولى.
إلّا أنّ ما يرفع الرأس هو الشعور العام لدى لفلسطينيين بضرورة الصمود والبقاء وتحمل المشاق. ويهون ذلك كلّه في نظرهم مقارنة باحتمال الهجرة. صحيح أن هناك كثيرين يفضلون الفرار والبحث عن مكان آمن خارج القطاع، لكنه ليس حال غالبية الناس لاعتبارات كثيرة. فليس سهلا أن تبدأ الحياة من جديد بعيدا عن وطن تعشقه، وفي خضّم صراع بينهم وبين الاحتلال الطامح لانتزاع أرضهم وسلبها.
ووسط ذلك، لا يبدو أن الهدوء النسبي في رفح سيبقى على حاله مع اقتراب الغارات منه، بالإضافة إلى تصريحات اسرائيلية بهذا الشأن، لاسيما وأن رفح هي منطقة الحدود مع مصر، وهم يعلنون عن رغبتهم في السيطرة عليها لاعتقادهم بأنّها منطقة الأنفاق التي يدخل منها السلاح.
وبالرغم من ذلك، مازلنا بخير ونأمل اقتراب انتهاء هذه الحرب.
من صحافة العدو
من الواضح ان قضايا عديدة تشغل بال الإعلام الإسرائيلي، ولكن أبرزها يتصل بالعلاقات الاميركية الإسرائيلية، وتطورات الحرب في غزة، واحتمالات تأثيرها على العلاقات المصرية الإسرائيلية، بالإضافة إلى السيناريوهات المحتملة للحرب مع لبنان.
ويمكن القول إن جانبا من الخطر بدأ يظهر في الأيام الأخيرة من خلال عدم وعي المتطرفين داخل حكومة نتنياهو لأهمية العلاقة مع الولايات المتّحدة، واستعدادهم للمخاطرة بها. وهو ما صار يتبدى من خلال تحطيم البقرة المقدسة التي اسمها المؤسسة الأمنية من جيش و”شاباك” و”موساد”، وكانت “المؤسسة الأمنية” لها الحظوة حتى وقت قريب في كل ما يتصل بالتوصيات السياسية الامنية.
ففي اجتماع الكابينت الأخير، عجز نتنياهو عن تمرير قرارات تتعلق بالسماح بدخول عمال من الضفة الغربية للعمل في “إسرائيل”، انقاذا لقطاعي البناء والزراعة المشلولين، وبتقديم أموال المقاصة غير منقوصة للسلطة الفلسطينية، وبفتح معبر كرم ابو سالم.
وتلك المطالب كلها هي مطالب أميركية متكررة، أوصت المؤسسة الأمنية بقبولها، ولكن الكابينت رفض تلك التوصية. وقد أرجأ نتنياهو التصويت حول هذه القضايا لإدراكه بصعوبة تمريرها، واضطر للتعرض لحملات داخل لجنة الخارجية والأمن بسبب النقاشات حول وجوب رفض الاملاءات الاميركية. لكن ما تسرب من أقوال نتنياهو يظهر أنه اعتبر أنه ليس فوق اميركا أحد يجبرها على أن تفعل او لا تفعل شيئا ما، فيما أن اسرائيل فوقها اميركا، وأن اسرائيل من دون اميركا خاسرة. وجاءت كلمات نتنياهو ردا على مواقف المتطرفين داخل حكومته حتى من داخل الليكود ممن يعتقدون ان بوسعهم فعل كل ما يحلو لهم من جون أخذ الموقف الامريكي بعين الاعتبار.
وفي تطورات الحرب على غزة، يتركز الحديث على ثلاثة مناطق يحتدم فيها القتال الواسع من دون أن يسود هدوء المناطق الأخرى. وهذه المناطق الثلاث هي خانيونس والشجاعية وجباليا. فالمقاومة شديدة فيها، وتظهر قوتها في اضطرار الجيش الاسرائيلي الى إنزال امداد جوي بالمظلات لقوات الكوماندو العاملة في منطقة خانيونس. وقد حاولت اسرائيل التقليل من معنى المصاعب اللوجستية عندما فسرت الانزال بانه تدريب على الانزال في مناطق بعيدة قد تضطر اليها إذا توسعت الحرب. ومعروف ان هذه هي عملية الانزال الجوي الأولى للإمدادات منذ حرب لبنان سنة 2006.
ومع ذلك، من المهم الاشارة الى ان المعلقين والناطقين بلسان الجيش صاروا يكثرون من الحديث استعدادهم لدفع ثمن باهظ من أجل استعادة الهدوء الى المناطق الحدودية.
وهنا يأتي دور الحديث عن رفح وتأثير وصول الحرب اليها على العلاقات المصرية الاسرائيلية. فقد أعلنت مصر انها ترى في دفع النازحين الفلسطينيين الى حدودها أمرا قادرا على التأثير على العلاقات مع اسرائيل. وحذرت من أي خطوة من هذا النوع. إلّا أن السؤال المركزي الهام في اسرائيل ليس عما إذا كانت قوات الاحتلال ستصل إلى رفح وانما متى ستصل الى رفح؟
وواضح لدى الجيش الاحتلال ان عليه انجاز مهمة السيطرة على خانيونس او على الأقل شرقيها قبل ان يتفرغ للسيطرة غلى محور فيلادلفيا الواقع بين مصر وبين القطاع. ويتحدث العسكريون الإسرائيليون عن أن مهمة السيطرة على محور فيلادلفيا وجواره ليست عملية معقدة عسكريا، وإنها ابسط من المناطق الأخرى لكنها تحمل تعقيدات سياسية خصوصا مع مصر.
ومعروف ان مصر تبدي تخوفاتها من اضطرار فلسطينيين بالآلاف او عشرات الآلاف، وربما بمئات الآلاف، لاختراق الحدود باتجاه سيناء هربا من البطش الاسرائيلي. وبرغم “تفهم” اميركا في البداية لدوافع اسرائيل في تهجير الفلسطينيين، إلا أنها عادت عن موقفها وانقلبت لتفهم الشعور المصري بالخطر من التهجير. ولذلك كثر الحديث الاميركي عن رفض التهجير القسري للفلسطينيين والإصرار على بقائهم في غزة.
فكيف ترد اسرائيل على الموقف المصري؟ أولا بإرسال وفد عسكري الى مصر لمناقشة المصريين في طرق تخفيف المخاوف المصرية سواء إزاء أثر الحرب على مسألة التهجير أو من أثرها على القوات المصرية والمدنيين القاطنين في الجهة الجنوبية من الحدود. ويبدو ان اسرائيل صارت أكثر اقتناعا بتبديد المخاوف المصرية سواء بتأجيل غاراتها على رفح من ناحية، واستمرار الاعلان عن ان الطريق مفتوحة للنازحين في رفح للعودة الى المناطق الوسطى بين وادي غزة وخانيونس.
وتتحدث وسائل الإعلام الاسرائيلية عن ان حركة الفلسطينيين حتى الان باتجاه المنطقة الوسطى هي أقل من المتوقع لكنها قد تزداد في الأيام المقبلة مع استمرار التأكيد على سلامة الانتقال. ومن المؤكد ان ازدياد الضغط العسكري على رفح مع استمرار فتح الطريق نحو المنطقة الوسطى سيدفع بأعداد كبيرة من النازحين للعودة الى وسط غزة. حتى أنه سرت شائعات تتحدث عن امكانية فتح الطريق الى مدينة غزة المدمرة وشماليها ولكن تحت المراقبة والتفتيش الاسرائيليين.
في كل حال تدلّ هذه المعلومات على اضطرار اسرائيل للتخلي عن فكرة التهجير، ولو مؤقتا.
إلى ذلك، يتكاثر الحديث عن الضغوط الدولية على لبنان من اجل ابعاد قوات “حزب الله” عن الحدود بذريعة تنفيذ حقيقي للقرار ١٧٠١.
وفي لجنة الخارجية والأمن، قال نتنياهو ان اسرائيل لن تعيد سكان المستوطنات الشمالية اليها قبل إبعاد حزب الله عن الحدود سلميا، اي عبر الاتصالات السياسية، أو عسكريا من خلال الحرب. ومعروف أن خلافا وقع في مستهل الحرب داخل القيادة السياسية والعسكرية حول إذا كانت الأولوية ستعطى لحزب الله أم لحماس. وأخيرا، وبسبب ضغوط أميركية، تم حصر المواجهة في غزة واتباع سياسة احتواء تجاه حزب الله. ولم تخف اسرائيل يوما رغبتها في ان تنجز اميركا مهمة ضرب إيران وان تضرب هي ذراعي إيران في لبنان وغزة حسب تعبيرها.
وقد نشرت صحيفة اميركية أمس خبرا ربما يكون من باب التمهيد لتطورات محتملة في الشمال تفيد بأن اسرائيل وجهت إنذارا بضرورة إبعاد قوات حزب الله عن الحدود “خلال ٤٨ ساعة وإلا”. ولكن مراسلا عسكريا في إذاعة الجيش قال انه لم يسمع بمثل هذا الانذار من أحد في تل ابيب.
عموما، تحاول اسرائيل ان تبني لنفسها تصورا عن اليوم التالي للحرب وفق مصالحها من دون ان تأخذ بالحسبان واقع انها لم تكسر المقاومة حتى الان، وأن آمالها بتحقيق السيطرة على غزة خلال وقت قريب غير قابلة للتحقيق.