اختلسنا ليلة مرقشة بالنغمات والذكريات الجميلة والاحتمالات الواعدة بغد أقل بؤسا مما كنا نفترض، مع زميلتنا عناية جابر التي استحضرت ليلى مراد إلى “مسرح المدينة” في بيروت بقوة إرادتها المعزّزة بقرار “البولدوزر” نضال الأشقر.
كانت الليلة أكثر بهجة من أي توقع، ربما لذلك سأفسدها ببعض الملاحظات “السياسية” :
ـ أولى الملاحظات المفرحة ان نسبة الشبان بين الجمهور الذي احتشد فملأ المسرح كانت مرتفعة. وهذا يعني أن شبابنا ليسوا “قليلي الذوق”، وليسوا منقطعين تماما عن تراث أهلهم العجائز والغارقين في مراراتهم لأن زمانهم قد فات.
الجيد جيد والرديء رديء، وبين أسباب سيادة الرداءة في الموسيقى والغناء الآن سيادة الانحطاط في السياسة وسيادة منطق الهزيمة بكل تداعياتها على النمط “الرسمي” من الثقافة العربية المعاصرة. والحل للموسيقى كما للاقتصاد كما للثقافة كما للسياسة هو في السياسة بما هي فكر وإبداع وفهم وقراءة للواقع بعين المستقبل.
إن النمط السائد من الغناء هو “ترجمة” شبه حرفية، بالآلات ونمط الإنتاج الموسيقي الحديث الذي تغيِّب فيه الألكترونيات البشر.
تماما كما النمط السائد من الشعر ومن القصة ومن الرواية ومن المسرحية هو “ترجمة” شبه حرفية، حتى لا نقول تقليدا مباشرا للسائد عالميا.
“العولمة” أنجزت مهمتها في الثقافة قبل أن تتم في الاقتصاد، لتبلغ ذروة تجلياتها في السياسة وكنتيجة منطقية لكل ما سبقها.
ـ الملاحظة الثانية أن لا علاقة بين الاحتراف والطرب. وبذا يمكن تفسير الظاهرة اللافتة في أن العديد وربما الغالبية من المطربين والمطربات المحترفين والمحترفات لا يَطربون فلا يُطربون، بينما القلة القليلة منهم ممن يغنون لأنفسهم، ويمارسون الغناء كمتعة وكتعبير عن شغفهم بالحياة وعن رغبتهم في تزيينها بالأبهى والأبهج من قدراتهم، تَطرب فتُطرب. تغني لذاتهم فتنشي جمهور السامعين. وحين كانت عناية تغني لنفسها أطربت، أما حين انتبهت إلى الجمهور وإلى النقاد فقد نشزت. والحمد لله إنها لم تتذكره إلا في لحظات عابرة.
ـ الملاحظة الثالثة والأخيرة ان “يهودية” ليلى مراد لم تكن عقبة لا في الإعجاب بصوتها وتقدير فنها في حياتها، ولا هي منعت تكريمها بعد رحيلها في أميرة العواصم العربية بيروت، وعبر مؤسستين تمارسان قوميتهما إلى حد التعصب.
وتلك شهادة للإنسان العربي الذي لم تأخذ منه الهزيمة لا قدرته على التذوق ولا رفضه للتعصب الديني.