غزة ـ حلمي موسى
اليوم العاشر بعد المئة. مع مرور الأيام يزداد الإحساس بقسوتها، ولكن، مع ذلك، يزداد الأمل ويتعاظم بأن الفرج قريب، وأن نصر شعبنا محتوم.
***
ما إن تمّ الإعلان عن مقتل 21 جنديا في تفجير مبنيين في محيط مخيم المغازي أمس، حتى سادت أجواء “غريبة” في “إسرائيل”. الكل يتحدث عن “كارثة كبيرة” ووصلت الإشاعات إلى حدود خيالية. بل حتّى أن البعض تحدث عن “إبادة” لواء إسرائيلي كامل.
ثم، ما إن تبدّت الصورة، وتم إخراج القتلى من تحت الأنقاض، حتى ظهر الرقم 21 ليضاف الى ثلاثة آخرين أُعلن عن مقتلهم في صباح اليوم نفسه. وكان رقم 24 قتيلا كافيا لإثارة ضجيج هائل في الكيان أساسه هو أنّه: كيف يلقى هؤلاء مصرعهم بعد حوالي 108 أيام، أي مع اقتراب الشهر الرابع من الحرب من نهايته؟
تعيش في أذهان الإسرائيليين تسميات مثل حروب “الأيام الستة” و”الساعات التسعون” و”الدقائق الخمسة”. لم يعتادوا بعد على حرب الشهور الأربعة المفتوحة، ووفق التصريحات الإسرائيلية، على حرب عام على الأقل، أي طوال 2024.
بعد “مقتلة” الجنود في المغازي، وإلى جانبهم عشرات آخرين من المصابين وممن سيحملون إعاقات مدى الحياة، لم يجد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو مخرجا سوى إصدار بيان مشترك مع عضوي مجلس الحرب بيني غانتس ويؤآف غالانت. وأعلن الثلاثة، بشكل موحد، أن الحدث “مؤلم جدا لكن الحرب ستستمر”.
لم يكن لهذا الاعلان من مغزى سوى القول للإسرائيليين وللعالم إنه ليس أمام العدو سوى إكمال الطريق نحو “الأهداف المعلنة”.
لكن كل العالم بات يرى أن تحقيق الأهداف المعلنة هو أمر شبه مستحيل. وأن هزيمة الفلسطينيين في غزة غاية لا تُدرك. وأن استمرار الحرب مستحيل.
انطلقت الأصوات المعارضة لاستمرار الحرب وعلت. صحيح أن المحكمة العليا أمرت الشرطة بالسماح بالتظاهرات المناهضة للحرب، لكن ما هو أهم من ذلك كان انطلاق اصوات الساسة ضد الحرب.
قبل فترة، كان التشكيك في مسار الحرب حكرا على عدد قليل من المعلقين السياسيين في وسائل الاعلام. ثم صار ينضم إليهم، بشكل بطيء، عدد من الساسة لاسيما بعدما صار قادة عسكريون يقولون إنه من دون افق سياسي، لا معنى للإنجازات الميدانية.
صارت واشطن تتحدث صراحة عن عجز إسرائيل عن حسم الحرب وعن عدم جدوى استمرارها بهذه الطريقة.
وكان الجديد هو انضمام زعيمة حزب العمل السابقة شيلي يحيموفيتش الى المعارضة، وقد كتبت اليوم مقالة بعنوان: “أوقفوا النزيف في غزة”. وفي التالي ترجمة لأبرز ما جاء فيها، لدلالتها ولتعبيرها عن صوت احتجاجي إضافي بدأ يعلو ويضغط على قرارات حكومة العدو ومسارها.
وكتبت قائلة إنه “سيتم أيضًا مناقشة ما حدث، والتحقيق في كيفية قيام الإرهابيين، بالقرب من الحدود، في المنطقة التي كان من المفترض أن تكون تحت سيطرة الجيش الإسرائيلي، بإطلاق صاروخين دقيقين من نوع “آر بي جي”، من مسافة قصيرة، مع ضبط مباشر، من أي دون إزعاج أو تحذير.”
أضافت “ويتساءل المرء أيضاً كيف يتم تنفيذ مثل هذا النشاط المفتوح بوجود قوات هزيلة فقط تقوم بتأمينه، وكيف تجمّع هذا العدد الكبير من المقاتلين في نقطة واحدة، في ظل الافتراض الخاطئ بأنه لا يوجد عدو يتربص بهم في المنطقة.”
وتابعت أن “ولكن الحقيقة يجب أن تقال. حتى لو تم التحقيق في الحادثة بشكل شامل، وتم استخلاص جميع الاستنتاجات العملياتية واستيعابها وتنفيذها، فإن ما حدث سوف يحدث مرة أخرى. فهذه هي طبيعة الحرب التي تصبح روتيناً يومياً، هكذا يبدو السير نحو هدف وهمي متغطرس ومكشوف. هكذا تبدو الحرب التي ترفض الحكومة أن تحدد لها ولو ذرة من هدف سياسي أو نقطة نهاية، أو حتى هدف يمكن تحقيقه. هكذا تبدو الحرب على عاتق المقاتلين بالكامل، بينما يتنصل قادتهم من أي مسؤولية أو تصرف.”
واعتبرت أنه “إذا كانت هناك حاجة لمزيد من الأدلة على ذلك، فإن كلمات بنيامين نتنياهو الفارغة جاءت بالأمس: “لن نتوقف عن القتال حتى النصر الكامل”. النصر المطلق. حقًا. ثم أضاف: “باسم أبطالنا ومن أجل حياتنا”، وانضم إلى رسالة “باسم” و “من أجل” كل من يؤآف غالانت (“سقوط المقاتلين أمر ضروري لتحقيق أهداف الحرب”) وبتسلئيل سموتريتش (“التزامنا هو أن سقوط الأولاد لن يذهب سدى”). وفي اليوم التالي، تمسّك بهم، وجرفه التيار أيضًا، بيني غانتس، الذي وقّع بأن “احنِ رأسك ولكن واصل الفوز”.
وأشارت إلى أنه “ليس من منطق في هذه التصريحات. إنها حلقة مفرغة. ماذا يقولون: إنه مع تزايد الخسائر سيزداد أيضاً “الالتزام” و”الأمر” بمواصلة القتال؟ فهل الخسارة -المخطوفون والقتلى- تبرر لنا خسارة المزيد؟ ومتى ستنتهي هذه الحلقة المفرغة، إذا كانت على الإطلاق، عندما تكونون أنتم أنفسكم غير قادرين على الاقتراب ولو قليلا من نقطة النهاية، بصرف النظر عن ذلك “النصر” غير المتبلور؟”
وقارنت أعضاء الحكومة بالمقامرين معتبرة إنه “على الرغم من فظاعة هذه المجموعة، إلا أنها تذكرنا بالمقامرين في الكازينو الذين يضعون المزيد والمزيد من الرقائق لأنهم قد وضعوا الكثير من قبل بالفعل. وهذا اتجاه إنساني معروف وموثق في الاقتصاد وعلم النفس. إذا كنت قد استثمرت بكثافة، تشعر أنه يجب أن تستمر. ليس هناك سبب لذلك أو أي منطق. بالتأكيد ليس هناك أخلاق. الحياة التي تم الاعتناء بها وانتهت، لا تقدر بثمن. هؤلاء أناس، معظمهم من الشباب ماتوا بدماء أيامهم، حتى قبل أن يتاح لهم الوقت لتحقيق ولو بعض أحلامهم، ويتركون وراءهم الموت والفجيعة والحزن والمعاناة التي لن تنتهي أبدًا.”
وختمت بالقول إنه “لا يمكن أن يقع عبء كارثة 7 أكتوبر وتبعاتها على عاتق الجنود النظاميين والاحتياط فقط، وتجلس حكومتهم بلا أي تحرك سياسي. وهذا هو الدور الوحيد للحكومة في الوقت الراهن”.
عموما هذا تفكير بدأ يعبر عن نفسه في وسائل الإعلام والحلبة السياسية الإسرائيلية، ولم يكن موجودا من قبل.