تتصرف الطائفة العظمى، عبر رموزها الروحية والعسكرية والسياسية، وكأن العاصفة الدموية التي تضرب “المنطقة الشرقية”، شأن ماروني خالص، لا علاقة للآخرين به، يستوي في ذلك الدولة وأبناء سائر الطوائف وصولاً على بعض “المتورطين” في الشرعية ومن معها من الموارنة.
لكأنها حرب بين عصابتين استعر بينهما الصراع على المسروقات، فاحتكمتا إلى السلاح، مع مراعاة حرفية لتقاليد المافيا في عدم تمكين “السلطة” من التدخل والتأثير على نتائج الصراع المميت،
… وبين هذه التقاليد أن تتواطأ العصابتان على تدمير المسروقات إذا ما داهمهما خطر تدخل السلطة،
وبين هذه التقاليد طبعاً أن تتلاقى بنادق العصابتين على “السلطة”، إذا ما تدخلت، ومتى انصرفت أو تخلت عن محاولة القيام بواجبها في حماية الناس، لأرزاقهم وممتلكاتهم ، استانفت العصابتان صراعهما على “السلطة”، وحق التصرف بالمسروقات…
ومن أسف أن المرجع الروحية للطائفة تخضع لمنطق المافيا نفسه أو أنها تنصاع معه فتمتنع هي الأخرى عن التوجه إلى الدولة بوصفها المرجع الصالح، وتلقي بثقلها من أجل “تهريب” المعالجة من الإطار الوطني العام وحصرها في النطاق الطائف البحت.
ولقد تحملت هذه المراجع أن تهان وأن تحقر وأن تستخدم مواقعها وسمعتها ومعنوياتها كشهود زور، على حرب شرسة تلتهم في كل لحظة المزيد من المواطنين ومن مصادر رزقهم، إضافة إلى ما تدمره من مرافق الدولة ومن البنية التحتية للبلاد.
لكأن “الضرر” الذي يمكن أن يلحق بالطائفة العظمى ورعاياها الممتازين نتيجة اللجوء إلى الدولة أخطر وأفدح من هذا الذي لحق ويلحق بها وبهم فعلاً نتيجة حرب المتمردين التوأمين الخارجين على الدولة، وعلى الموقع الممتاز للطائفة فيها.
من البابا، في الفاتيكان، إلى الرابطة المارونية، مروراً بالبطريرك في البطريركية المارونية والرهبانيات يتصرف الجميع وكأن “الدولة” – أي الجمهورية اللبنانية – طارئ غريب، غير ذي صفة للتدخل في خلاف “لاهوتي” بحت نشب بين جنرال التعتيم وحكيم التقسيم.
البابا يغلب الصفة “الرعوية” للموارنة على صفتهم الأصلية كمواطنين لبنانيين يحملون هوية “دولة” محددة بالذات، وتتحمل بالتالي المسؤولية الكلية عنهم، عن حياتهم وأمنهم وسلامة ممتلكاتهم، فإن تخلت وجب لومها وإسقاط الحكم والحكومة فيها لنقص في الأهلية وتورط في جرم يعادل الخيانة العظمى.
والبطريرك الماروني يتابع إطلاق النداءات باسم المسيحية، والمناشدات والمواعظ الأخلاقية للمتقاتلين مباشرة، مع تجاهل مستفز لوجود دولة للبلاد معنية ومسؤولة عن شؤون العباد في الماضي والحاضر والمستقبل، وكأنما الحرب تدور في صحراء أو لكأنما شعب لبنان الصغير مجموعة أمم لا رابط بينها ولا ترابط، ولا كيان سياسياً له يحمل اسم “الجمهورية اللبنانية”.
… ولجنة الوساطة الثلاثية تعمل ليس فقط بمعزل عن الدولة، بل وبالتضاد معها وتكاد تستخدم الدولة واحتمال تدخلها لإخافة المقتتلين وإلزامهم بالعودة إلى التوحخد ضد “غول” الشرعية المتربص بهم شراً في “الغربية”!!
حتى المطران خليل أبي نادر لا يتذكر الدولة، ولا يلجأ إليها إلا لطلب بعض المساعدات “المواد التموينية والأدوية، الخ”، ولكأنها جمعية خيرية مثلها مثل “كاريتاس” أو “أطباء بلا حدود” أو “عامل” الدكتور كامل مهنا!
في ضوء هذا كله تكتسب هذه المواقف أبعاداً خطرة جداً في السياسة، وبعيداً عن المواعظ والمناسبات وادعاءات مسؤولية الرعوية، تبدو هذه المراجع جميعاً متورطة في عملية سياسية مشبوهة عنوانها الحقيقي: تنظيم التقسيم،
فتحت الرداء الكهنوتي يصار إلى تمزيق الكيان السياسي اللبناني بذرائع طائفية، وربما دينية… فبعد تنظيم التقسيم تتحول “المنطقة الشرقية” إلى دولة مسيحية بمعنى الكلمة : شعبها، عسكرها، مراجعها، ومواقع “السلطة” فيها لا تعطى إلا لمن يحظى بالبركة الرسولية!
وما تمرد ميشال عون لولا “الحماية” التي يسبغها عليه الفاتيكان والتي تفذلكها الدبلوماسية الفرنسية العريقة بتراثها الصليبي… ألم تكن فرنسا باستمرار الذراع العسكرية البابوية؟!
وإذا ما لجأنا إلى استعارة التعابير العسكرية السائدة هذه الايام، لجاز القول إن البابا هو الذي قاد الهجوم السياسي، وإن البطريرك الماروني نجح في إعلان الهدنة، في حين تولى المطران أبي نادر قيادة انسحاب عون من أدما.
وفي انتظار أن يقرر “الجنرال شتاء” موعد الجولة الثانية، وربما الحاسمة، بين المختصين، يكون عون قد أبكى “عين” جعجع فرد هذا بأن “أدماه”.
على أن “المراجع العليا” لا تهتم بالتفاصيل كثيراً وإنما تعنيها النتائج، وبالذات مشروع الدولة المسيحية، إن لم يكن كحقيقة سياسية فكورقة ابتزاز خطيرة من شأنها إحداث تبديل يسري في طبيعة الكيان السياسي للبناني وهويته ودوره.
كلنا نمشي تائهين عبر الضباب،
فمع العجز السياسي، وليس العسركي، للشرعية وحكمها، يصعب تصور الوصول إلى نتائج طيبة في المدى المنظور.
وبقدر ما افترض اللبنانيون أن الحرب بين المتمردين في الشرقية قد تكون آخر الحروب قبل انبلاج فجر السلام، لأن من شأنها أن تدمر المؤسسة الطائفية الأعتى والأعرق في لبنان والمنطقة، فإن العجز عن توظيف هذه الحرب لخدمة الحل “السلام” يبدو مأساوياً، ومع الوعي الكامل بأن الهدنة الهشة بين العونيين والجعاجعة لن تعمر طويلاً، وإن الحرب ستتجدد “حتماً” حتى ينتصر طرف على الآخر، مهما كان الثمن، فإن من الضروري التوكيد على بعض النقاط ذات الدلالة ومنها:
1 – إن الطرفين يتقاتلان ضد الحل، وهما بهذا ضد الدولة وحكمها الشرعي، ولقد كان كافياً أن يلوح جعجع باحتمال “الاعتراف” بالدولة وحكمها والأساس السياسي الذي يستند إليه، أي “اتفاق الطائف”، حتى تكثفت الضغوط على عون لوقف المعركة “ولو مؤقتاً” لدرء هذا الخطر اللعين.
وبرغم أن جعجع كان يناور لا أكثر، ولذلك استخدم لغة ملتبسة ومواربة ومفرغة من المضمون، فقد جاءته تحذيرات جدية بالتخلي الفوري عنه وترك مصيره لمدافع الجنرال… فأمر الاعتراف بالشرعية “خط أحمر” لا تجوز المناورة على حدوده؟؟
2 – إن الطرفين يتقاتلان تحت راية مشروع سياسي واحد، تقسيمي بالضرورة، ولذا فقد يكون ضرورياً أن تحسم الطائفة أمرها، فلا تظل برأسين وجيشين، ولكن ذلك كله يجب أن يكون بعيداً عن الدولة والشرعية واتفاق الطائف ومشتقاته.
وفي هذا المجال فلا بأس أن يسحب الجنرال مغاويره من قاعدة أدما ولا باس من أن يستبقي جعجع مركزاً سياسياً لقيادته في المجلس الحربي بالكرنتينا، ولا بأس بإعادة تنظيم الصفوف خلف حدود التماس الجديدة تمهيداً لهجوم كاسح قد يشنه الجنرال في كسروان ويستأصل في ظل نيرانه وجود “الحكيم” في بيروت، لكن المهم أن يتم ذلك كله وقد سدت منافذ التدخل في وجه الشرعية، وإن كان لا مانع من استمرار التعاطي معها بوصفها جمعية خيرية أو شركة نقليات تؤمن توصيل الخارجين من عين الرمانة إلى المجلس الحربي في الكرنتينا لاستئناف النضال ضدها!!
3 – إن اللجنة الثلاثية العربية والدول العربية عامة تتصرف وكأن الحرب على الشرقية وفيها، هي فعلاً شأن ماروني أو مسيحي خالص، لا علاقة للآخرين به، مهما كانت درجة القربى وصلة الرحم…
والملك فهد بن عبد العزيز الذي يكرر على الشرعية نصائحه بالروية والتعقل وعدم التورط أو التهورن إنما يحقق – من جانبه – الأهداف السياسية ذاتها التي يريدها أو يطمح إلى تحقيقها البابا.
فالفاتيكان يتصرف وكأن “الشرقية” مداه الحيوي، فنانسها من رعاياه، وهو مرجعهم الروحي والزمني، بالدنيا والآخرة.
والملك فهد يُقر له بذلك، ويكاد يطالب الياس الهراوي بأن يقر للبابا بهذا الحق، ولو كان وكيله في الشرقية الضابط المتمرد ميشال عون، ولو كان تمرده يتعدى شخص الرئيس إلى القاعدة السياسية لوجوده في سدة الرئاسة: اتفاق الطائف الذي رعاه فهد شخصياً…
وبالتأكيد فإن مثل هذا الموقف يشل الشرعية، وحكمها، ويعطل بل يلغي اللجنة العربية الثلاثية وينهي اتفاق الطائف والنتائج السياسية التي ترتبت عليه.
فهل هذا ما يقصده فهد بن عبد العزيز، أم أن نصائحه تصدر عن شعور إنساني مجرد، مع تجاهل للآثار السياسية المدمرة لمثل هذا المسلك.
وهل يفترض ملك السعودية أن الحل السحري لا يملكه إلا شخص واحد هو الدكتور جورج سعادة، حتى استضافه في الرياض وأصغى إليه طالباً المشورة والرأي السديد؟!
وهل يملك مثل هذا المتردد بل الجبان، والذي يحمله كثيرون نسبة كبيرة من مسؤولية ما جرى ويجري في الشرقية منذ إعلان اتفاق الطائف وحتى اليوم، ما يمكن أن يفيد من يطلب حسماً أو انتصاراً للشرعية في لبنان على المتمردين عليها؟…
مع التذكير بأنها “شرعية عربية”، ومن ثم دولية.
وهل يطلب فهد بن عبد العزيز من عاجز مثل جورج سعادة ما لم يستطع غيره من قادر مثل بابا الفاتيكان أو رئيس جمهورية فرنسا؟!..
وإلى متى سيستمر سيرنا في الضباب، بل في التعتيم، وهل ترانا نخرج منها – بفضل العجز – إلى التقسيم المنظم… برعاية دولية “عربية”؟!
ملحوظة أخيرة على الهامش:
-ما أمرّ المفارقة التي نعيش…
-يؤتى ببعض الناس من أقصى الأرض، تحت لافتة الدين، ليعطوا أرضنا، بيوتنا، مدافن موتانا، شجرنا وعطر زهر الليمون، أصص الورد على نوافذنا، أنفاسنا في غرف نومنا، ذكرياتنا والأحلام السنية.
وفي الوقت ذاته يحاول البعض منا، وتحت لافتة الدين الهرب ببعض أرضنا بعيداً عن الوطن.
يأتي اليهود، أو يؤتى بهم ليأخذوا بعض الوطن.
ويحرض بعض أهلنا، باسم مصلحة الطائفة لكي يهرّبوا الأرض من الوطن، فتسقط عنهم هويته، أو يسقطون عنه الهوية.
حرب من الخارج وحرب من الداخل على الوطن.
فالملك فهد لا يجد غير أن ينصح بالروية والتعقل وعدم التهور،
وبلا تهور، يمكن التوجه إلى الملك فهد بسؤال صريح: ومن يحمي الوطن، يا صاحب الجلالة، من يحمي فلسطين الثانية والفلسطينيات الأخرى التي في الطريق؟!
وفي انتظار الجواب الملكي، علينا – بمنتهى الروية والتعقل – انتظار الجولة الثانية في حرب إبادة الوطن والمواطنين باسم الصراع على القرار في الشرقية … البائسة؟!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان