نما إلى علمي ليلة أمس أن العالم يحتفل يوم الخامس عشر من مايو بعيد البيتزا. لست أخجل من الاعتراف بأنني قضيت ساعة أو أكثر من الليل أجتر سعادة فائقة يعود تاريخها إلى ما قبل منتصف القرن الماضي ومصدرها مطعم صغير ما زلت أذكر انبهاري بأغطية موائده ذات المربعات الحمراء والبيضاء. أتحدث عن سنوات الأربعينيات وأوائل الخمسينيات من القرن الماضي وعن محل صغير يخبز ويبيع البيتزا على مدخل سينما ريفولي ويملكه الفنان القدير رشدي أباظة، وأظن، إذا لم تخني الذاكرة، كانت تديره والدته الإيطالية الأصل والجنسية.
***
أذكر أيضا أنني عدت فتعارفنا، البيتزا وأنا، مرة أخرى في مدينة طرابلس الغرب خلال رحلة فريق الجوالة في كلية التجارة إلى المملكة الليبية. هناك وباعتباري ذواقة الفريق الأشهر والمسئول عن إطعام الفريق ورفاهته توسطت إلى قوى ذات نفوذ لتخصيص ليلة ساهرة في الفندق الأكبر والأجمل على عشاء من البيتزا وصواني “لازانيا” المصنوعة من رقائق العجين الأخضر والمحشوة بالعصاج. للتوضيح يجب أن أشيد بالطاهي الإيطالي الذي استحق انبهار الفريق وتصفيقه أمام ضيوف المطعم الآخرين وكلهم من الايطاليين المقيمين في طرابلس.
***
عدت فالتقيت بالبيتزا، هذه المرة، في إيطاليا وطنها الأصلي بعد عامين من الغربة قضيتهما بين الهند والصين. قام بتدبير هذا اللقاء نبيل العربي الشاب الخلوق الذي سبقني للعمل بالسفارة المصرية في روما بعامين على الأقل. وهو الذي دبر عديد لقاءات التعارف مع شخصيات إيطالية وزملاء في السلك الدبلوماسي. كان طلبي متواضعا. طلبت من نبيل أن يدعوني لمحل يخبز البيتزا الطلياني الحقيقية، وأقصد بالحقيقية تلك التي يقبل عليها الإيطاليون أصحاب الذوق الرفيع في اختيار وتناول العجائن. لا أريدها سياحية ولا “مستغربة”. قلت له إنني عشت سنوات أحلم بهذا اليوم، لذلك عليه أن يدبر المكان والأجواء المناسبة لتحقيق هذا الحلم.
***
أخذنا إلى منطقة في وسط روما. ترجلنا على الأقدام ومشينا في شوارع تزدحم بالسياح وتعج بأصوات الإيطاليين، ومن الشوارع دخلنا في حواري ومن الحواري دلفنا إلى أزقة تسحبنا كالحالمين رائحة لم أشم مثلها في الروعة والشوق، ومن حولنا يشدو بالغناء على أنغام جيتارات محمولة المهللون من الشباب والأطفال. لم يعد نبيل يقودنا، قادتنا الطوابير والرائحة النفاذة ومنظر صواني البيتزا محمولة على أعناق نوادل متجهين بها إلى موائد خشبية مرصوصة على جانبي الزقاق. ليلتها أكلت بيتزا لم أذق مثلها ولا بعدها في قارات العالم الخمسة. صارت هي معياري في قياس “طعامة” أي بيتزا أخرى في أي مكان وزمان. أذكر أيضا أنه خلال العودة وعلى بعد زقاق أو زقاقين توقفنا أمام نافورة “دي تريفي”، النافورة الأشهر في روما.
***
هناك زعم سائد بأن مصر الفرعونية أحد بلاد منشأ البيتزا، ففي هذا الزعم أن الحضارات القديمة جميعها تشترك في هذا الشرف باعتبار أهمية الخبز للاحتفالات الدينية وإطعام الفقراء. قيل أيضا أن تاريخ الحضارات القديمة شاهد على تلاصق مهنتين في كل المدن وهما مهنة الخباز ومهنة صانع البيرة، وأن البيتزا جاءت لتحلي وجه الخبز وتسهل بلعه وهضمه.
***
ارتبطنا عائليا في الأمريكتين. كبر الطفلان وككل الأطفال في تلك البلاد وقعا في حب البيتزا. كنا نسكن في حي لا يبعد كثيرا عن الحي العربي في بيونس آيرس. هناك وفي تلك السنين كانت المنافسة شديدة بين البيتزا و”الامبانادا”، هذه الفطيرة الساحرة التي اخترعها أهل إسبانيا من السلالات العربية وهاجرت مع المهاجرين وجيوش الفتح الإسبانية والبرتغالية إلى العالم الجديد. كنا الكبار في عائلتي الصغيرة نفضلها على البيتزا المحلية بينما ظل سحر البيتزا يلاحق الطفلين. أساء الأرجنتينيون الجدد كما فعل الأمريكيون والكنديون إلى سمعة البيتزا بما فعلوه بها واعتبروه تطويرا وتجديدا. وقعت الصدمة ذات يوم عدت فيه إلى البيت لأجد الطفلين يلتهمان شيئا ما غريب المنظر والرائحة. اقتربت لأكتشف أنهما يأكلان بسعادة بالغة بيتزا مزودة بالسبانخ المطبوخة وشرائح اللحم المقلي.
***
تكررت الصدمة في مونتريال. في الحالتين ألقيت بالمسئولية على بائع البيتزا الذي سمح لأولادي أو شجعهما على تناول هذه “الخلطبيسة”، وهو الاسم الذي أطلقه عليها زائر نزل في ضيافتنا. إذ تصادف أننا اخترنا للسكن شقة في عمارة تطل على حرم الجامعة التي قبلتني طالبا في قسم الدراسات العليا بكلية العلوم السياسية، وكان بمدخل العمارة الأنيقة مقهي صغير جدا يخدم على سكان العمارة بالمشروبات والمأكولات الخفيفة ومنها بيتزا جاهزة الصنع ولا تمت بصلة إلى البيتزا الإيطالية إلا بالاسم. كان أسفنا، أمهم وأنا، عظيما.
***
عدنا بعد رحلة اغتراب طويلة أخذتنا من أقصى الشرق في الصين إلى أقصى الغرب في شيلي وكندا مرورا بأوروبا، عدنا لنجد أن شركات إنتاج الأغذية المعلبة أو جاهزة الصنع قد سبقتنا إلى القاهرة. كانت سعادتنا بالغة حين اكتشفنا أن مطاعم في الحي الذي اخترناه لإقامة طويلة الأمد تخبز البيتزا وهي مثل غيرها تسلمها لزبائنها في مواقع سكناهم. فضلها أولادي وأولادهم على الشركات التي تتعامل في البيتزا جاهزة الصنع.
***
لم أسأل إن كان محل رشدي أباظة ما يزال قائما، ولم أجد من أسأله إن كان مخبز البيتزا المتواضع والمجاور لنافورة دي تريفي ما يزال يقدم البيتزا وبخاصة الذائعة الصيت والمسماة “مارجريتا”، على اسم ملكة إيطاليا التي أكلتها في أحد مطاعم الساحل في مدينة نابولي قرب نهاية القرن التاسع عشر وفضلتها على كل ما عداها من أنواع البيتزا، فسميت باسمها. لم أسأل وفي الواقع لم أجد من أسأله، أو ربما غلبني حياء من بلغ من العمر ما بلغت فتجنبت السؤال.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق