انقضت الايام التي كان فيها عرب النفط يحاولون تأكيد عروبتهم عبر ممارسة النفاق مع اشقائهم الفقراء..
يومها، كانوا يتصرفون وكأنهم يدفعون ضريبة الثروة لأشقائهم من اهل الثورة، دون أن يمنعهم ذلك من التآمر عليهم كلما واتتهم الفرصة.
وهواة التاريخ السياسي يستذكرون، بالتأكيد، الرشوة الباهظة ـ آنذاك ـ التي قدمتها السعودية للراحل عبد الحميد السراج، الرجل القوي في سوريا قبل الوحدة مع مصر ثم خلالها، للتخلص من زعيم العرب جمال عبد الناصر.
ولقد أدى انكشاف هذه المؤامرة إلى الاطاحة بالملك سعود وتقدم الامير فيصل بن عبد العزيز إلى تولي العرش في مملكة الصمت والذهب.
كان الملك فيصل أعظم حقداً على عبد الناصر من اخيه سعود، وقد اتهمه بالغباء في اعتماده في محاولة رشوة السراج للتخلص من القائد العربي الكبير على يد اقرب اعوانه اليه في سوريا، مما كشف المملكة واضطرها إلى نفاق عبد الناصر ومجاملته، مع الحرص على التربص به والعمل للتخلص منه، او محاصرته بشراء المناصرين في الاقطار العربية الفقيرة، وتحريض الاميركيين خاصة والغرب عموماً على هذا القائد العربي العظيم الذي حقق الانجاز التاريخي الفذ: تأكيد القدرة على بناء دولة الوحدة، مهما تعاظمت اعداد المتآمرين في الداخل والخارج، من عملاء المخابرات الغربية عامة ممثلة بأجهزة السي. آي. ايه الاميركية.
في تلك المرحلة كانت الهيمنة الغربية بالعنوان الاميركي تتحكم بأسعار النفط، خصوصاً وان الاتحاد السوفياتي كان تحت الحصار الغربي، وبالتالي فلم يكن قادراً على لعب دور المنافس، عالمياً، وبالتالي كان بإمكان واشنطن أن تقرر للنفط في السوق العالمية، السعر الذي يناسبها..
وكانت السعودية بين كبار المتضررين.. وقد وجد الملك فيصل في حرب العاشر من رمضان ـ السادس من تشرين الاول 1973 والتي شاركت فيها مصر وسوريا الفرصة الذهبية، للتحرر من الضغوط الاميركية واتخاذ قراره الشجاع بوقف تصدير النفط، طالما استمرت الحرب الاسرائيلية على الدول العربية، بدعم اميركي معلن..
لم يتأخر الانتقام الاميركي من الملك السعودي، ففي شباط 1975 تمت تصفية الملك فيصل بن عبد العزيز على يد واحد من ابناء شقيق له، اتهم لاحقاً بالجنون، وتمت تصفيته في ظل الصمت السعودي العميق..
بعد اغتيال الملك فيصل اعادت المملكة فتح انابيب النفط لتعوض الولايات المتحدة ما “خسرته” من “ربح فائت”..
توالت النكبات على العرب: هجوم صدام حسين على الكويت واحتلالها ثم هزيمته على يد “اشقائه العرب” تحت القيادة الاميركية، وهي الهزيمة التي تمددت وتعاظمت حتى الاحتلال الاميركي للعراق بمشاركة بعض الدول العربية في وصمة عار لحقت بالعرب ولا يمكن ازالتها في المستقبل المنظور.
ولم يتأخر تفجير سوريا الذي ما زالت تداعياته تتوالى، قتلاً وتخريباً ونسفاً للمنشآت الرسمية واسباب العمران وتهجيراً لسكان المناطق التي تحولت إلى جبهات مفتوحة نالها التدمير بحيث تستحيل العودة اليها الا بعد اعادة اعمارها، وهي تتطلب ـ اضافة إلى التكاليف الهائلة ـ زمناً طويلاً يفرض على من خرجوا منها الصبر، إذا استطاعوا، او الهجرة إلى اية دولة اجنبية قد تقبلهم… ولعل المانيا، بعد جيران سوريا (تركيا والاردن ولبنان) هي التي قبلت أكبر عدد منهم كيد عاملة رخيصة هي بحاجة اليها.
بالمقابل ساد، في السنوات القليلة الماضية، جو من التوتر بين السعودية وإيران، لأسباب تتعلق بالتنافس على النفوذ في المنطقة، وقد تعاظم هذا التوتر بعد تولي الملك سلمان العرش، وبعدما عزز موقعه كحاكم مفرد لمملكة الصمت والذهب بولي عهده الشاب محمد بن سلمان الذي اطل على المسرح العربي والدولي، اول مرة عبر اطاحته بولي العهد الاصيل محمد بن نايف، وكان قد اطيح قبله بولي العهد الاول مقرن بن عبد العزيز.
ومنذ سنوات، وتحديداً بعد الانتفاضة الشعبية في اليمن التي اطاحت الرئيس الابدي علي عبدالله صالح، باشرت السعودية حرباً شعواء ضد اليمن بذريعة مكافحة سيطرة ايران عبر الحوثيين على اليمن..
ولقد استخدمت السعودية المذهبية كمبرر لهذه الحرب التي تحمست لها دولة الامارات العربية المتحدة، التي كان مؤسسها الشيخ زايد يفاخر بأصله اليمني.. وهكذا انخرطت هذه الدولة محدودة عدد السكان في حرب مفتوحة ضد اليمن والاستفادة من إثارة الحساسيات الطائفية والجهوية بين شمال اليمن وجنوبه لاحتلال عدن..
ها هي الحرب تتعاظم وتطرق ابواب الحديدة، بينما الطيران الحربي السعودي والاماراتي يدك المدن ومعالم العمران في بلد الحضارة العربية الأولى، في ظل تواطؤ عربي معلن يجد اوضح تجلياته في الموقف المصري، بينما سوريا غارقة في دمائها والعراق غارق في دمار ما بعد داعش والتآمر الدولي بالعنوان الاميركي، ومخلفاته من احتمالات الفتنة الشيعية ـ السنية، ثم الشيعية ـ الشيعية في سياق الصراع على السلطة..
*****
أن عرب الثروة “يستأصلون” عرب الثورة..
من العراق إلى سوريا الى اليمن، ومع غياب مصر عن دورها بل انحيازها إلى العدوان السعودي ـ الاماراتي على اليمن بشمالها والعاصمة صنعاء ومينائها الاساسي الحديدة ـ بعد جنوبها انطلاقا من عدن التي استولت عليها الامارات تحت الحماية السعودية والرعاية الاميركية، يحق لعرب الثروة أن يتباهوا بانتصاراتهم الباهرة التي تقضي على المستقبل العربي الافضل، خصوصاً مع غياب سوريا والعراق لغرقهما في مشاكلهما الداخلية.
…وماذا يمكن أن يتطلب العدو الاسرائيلي اكثر من هذه “الانتصارات” التي يحققها عرب الثروة ضد عرب الثورة لمصلحته اولاً وأخيراً، حتى لو كان العنوان المباشر اميركيا..
لكن التاريخ ليس يوماً واحداً، ولا تمكن مصادرته بالثروة وهدر دماء المناضلين الذين صنعوا الماضي بكفاءتهم وعلمهم وسيوفهم، ولن يصنع مستقبلهم غيرهم..
تنشر بالتزامن مع السفير العربي