إلى أين؟ الزمن العربي توقف من أزمنة. لا تبحث عن الأسباب. تذكر فقط كيف تمزق شعار الوحدة. قمْ بإحصاء حروب “الأخوة” الأعداء. قرن من فصول العداء. دماء كثيرة أنفقت. الوحدة، كشعار، لم تر النور. كيانات، كلما تقدمت بالعمر، كلما تخلَّفت وتقلصت، وارتحلت من خندق إلى كارثة.
لا حاجة إلى التفصيل. خلص. الكيانات “العربية” تحلّلت. ساهمت في الاقتتال. تذكروا: حروب اللبنانيين ضد اللبنانيين. حروبٌ أنتجت عنفاً حفر عميقاً الخنادق بين الطوائف. تخلله فرز سكاني بلغ نهاياته. العداوات بين الطوائف والمذاهب بلغت “الزبى”.. عشرات “العاشوراء” الطائفية شهدنا.. ولبنان الذي كان منصة الفكر والحرية والأحزاب والقوميات، ركع ساجداً تحت إمرة الأحذية المذهبية.
لذلك، وراهناً، وداعاً لبنان. لبنان هذا يشبه حظيرة سياسية لا أكثر. الإمرة مشتتة. قريباً جداً، قد تصبح الإمرة “الإسرائيلية” نافذة. ألم تكتشفوا بعد، أن “إسرائيل” سترث أنظمة الشتات “العربية”. ها هي في لبنان. حتى داخل السلطة، وفي الإعلام، وفي البيانات، وفي برامج الانتقام في الشاشات إلى آخره.. من يجمع هذا الركام الماروني، الدرزي، الشيعي، السني إلى.. إلى..
“الإسرائيلي”؟ قريباً، ستكون “إسرائيل” الشقيق الإقليمي، والإمرة لها. ها هي تدوس الأراضي السورية وتقرع أبواب دمشق المشلعة. ها هي تفرض سيطرتها السياسية على سياسات لبنان بالنار. لبنان هذا، بلغ خاتمة اللبننة. وعليه، لا بد من تحية وداع لوطن لم يعرف كيف كانت شعوبه ضده. علماً أن الجملة الأولى في النشيد الوطني: كلنا للوطن.
سوريا تُلملم فتات السلطة. “إسرائيل” تقرع أبواب دمشق. طائراتها تقصف مناطق في العمق السوري. الغرب يرحب. يؤيد. أميركا تُحرِّض وتبارك. سوريا راهناً، فتات يحارب فتاتاً. من يجمع هذا الركام البشري المشتت طائفياً؟
سوريا لم تعد تشبه سوريا التاريخية. سوريا القومية. سوريا الوحدة. خلص. كانت سوريا وعداً، وبعد استيلاء العسكر على السلطة، صارت الجزمة العسكرية دليل الجماهير. إلى أين؟ نعم. إلى أين؟ إلى انعدام الحرية والوطن والفكر. تحوَّلت سوريا مع الشبق العسكري للسلطة، إلى ثكنة وسجون وجلاوزة.
أتذكر بيت الشعر الذي قاله أمير الشعراء أحمد شوقي:
قُم ناجِ جِلَّقَ وَاِنشُد رَسمَ مَن بانوا/ مَشَت عَلى الرَسمِ أَحداثٌ وَأَزمانُ
لا حاجة إلى المناجاة، الخلاصة السياسية هي: “خلص.. ما عاد في إلا القتل.. لا القتال”. العراق، شرفة الأمة على التاريخ وضوء العلم والمعارف. خلص. العسكر أنجز إعدام الشعب، مع إبقاء التنفس فقط لشعبه. ثم كانت الكوارث: حروب، بدعم أميركي. حصار، بقرار غربي. عراق الخير والإنجازات، قتلوه بأيديهم. جاعوا. حوصروا. سجنوا.
هل هذه أوطان أم معتقلات؟
كيف لي أن أنطق بصفتي مواطناً؟
لا مواطنين أبداً في بلاد ليست أوطانا، بل معتقلات بتحالف عسكري، سلطوي، “ديني”، مذهبي.
مصر؟ وداعاً. أزمنة النكسات لا تزال تنعر ذاكرتنا. ناصرية ذات آفاق قومية، وذات قبضات أمنية.. العسكر آفة السياسة. صار العسكر هو الآمر الناهي. قتلوا الحرية. ومن دون حرية، لا محاسبة. شعب مقيد لا ينجب ثورة. لم تكسب القاهرة لا وحدة ولا حرية ولا اشتراكية ولا فازت في أي حرب. حرب اليمن، خسارة. حرب النكسة. حرب تشرين.. يا إلهي. كانت “إسرائيل” تكسب الحرب بالضربة الأولى. حروب مصر مع “إسرائيل”، استدامت أياماً قليلة وهزيلة. مصر العظيمة، سجدت، ثم وقّعت على سلام يشبه الاستسلام.
ماذا أيضاً. دول الخليج. تتحالف مع الغرب، حماية وتجارة وأمناً وقلما شهدت الكيانات الخليجية، معارك داخلية. تمتلك هذه الدول ترسانة عسكرية حديثة وظيفتها استعراضية.. الحرية: لا تنطق باسمها. النقد: إياك والإفصاح. قل نعم دائماً، حتى ولو كانت في قاع النهر. فلسطين، في فلسطين وحدها. وليست في أي كيان خليجي. لا يمكن إنكار الدعم الخليجي لكيانات هزيلة، على الأقل بالمال والمساعدات والنصائح… وغسل اليدين أو إقفال أبواب التعاون والمصالح.
الكيانات الخليجية مخصخصة. صارمة. متينة. ممنوع اغضاب الغرب. هناك استثناءات عابرة. لعل اغتيال الملك فيصل كان القصاص – الأمثولة. ربما، الشك هنا ذو قيمة.
اليمن الثوري؟ يا حرام. جاءته الثقافة الماركسية اللينينية ولكنها انتهت بتصفيات داخل الصفوف غير المرصوصة. تناحر الرفاق. تذابحوا. وهذا ليس جديداً. ستالين سبقهم حتى إبادة كل “الرفقاء” واستحواذه على روسيا وحصته من دول الغرب، بعد الحرب الكونية الثانية.
اليمن تمزق. تشلع. قتل ماركس ولينين، وأحياناً المذهبية. سنة وشيعة و…
سيغضب الله كثيراً. هو واحد أحد، وجماعاته يا حرام. لا علاقة لهم بالتوحيد. إلا من رؤوس شفاههم.
ليبيا؟ هل هي على قيد الحياة أم على قيد التحارب المتدرج والباهظ. ليبيا راهناً حكومة، ومفروض عليها الصمت.. العرب مشغولون ببقائهم فقط. لا مشاريع داخلية، أو إقليمية. أو… “كل يوم بيومه”.
لا بد من التأكيد أن هناك حروبا “عربية” متمادية، ضد الحرية. ضد المحاسبة. ضد الفكر.. ضد كل ما هو إنساني وراقٍ. لذلك، أنظمة العرب ليست ملكية، بل هي أنظمة أمنية، مالية، مع إطلالات تلفزيونية، ومناعة مبرمة ضد التغيير.
الجزائر لا تشبه ماضيها. المغرب هو الشقيق المزمن لـ”إسرائيل”. ألزمتني مرحلة الإقامة في الجزائر، أن أعبر الحدود سيراً على الأقدام. علاقة المغرب بـ”إسرائيل” لا تشوبها شائبة أبداً..
هل نكمل ما تبقى من تبعيات عربية.
خلص. قاتلوا الآمال الكاذبة.
ابحثوا عن مستقبل آخر، يبدأ ببناء الوطن والحرية والحياة والقيم.
أخيراً؛
ماذا بعد؟
المنطقة تخرج من ماضيها وحاضرها إلى مرحلة جديدة. الإمرة السياسية لم تعد محلية. الإمرة لأميركا و”إسرائيل”. العرب شتات والغرب الأوروبي ينسحق لمصلحة الطاغوت الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة: دونالد ترامب راهناً، والأسوأ منه آت من بعده. جامعة الدول العربية، تتحول إلى أقبية فقط، الإعلام: إكذب. إكذب.. أخيراً تصدق كذبتك. الكذب هو الرائج في العالم كله.
هل يحلم العربي بأن يصير ذات زمن مواطناً؟
سؤال غبي، لأن الجواب مقيمٌ في المستحيل.
وبرغم كل ذلك. لست متشائماً أبداً، ووصف الواقع لا يعني الانتماء إليه.
ماذا بعد؟
التمسك بالحياة بكل إبداعاتها.
من أصل أربعة فصول، يُعوَّل دائماً على فصل الربيع. الربيع الإنساني قادم لا محالة، إذ لا يعقل أن تبقى الحياة على حافة الجحيم الرأسمالي.