يحلو لبعض الناس أن يقفوا فوق رأس السنة الراحلة متأملين مواقع الخيبة أو النجاح، قبل أن يتخففوا منها ليبدأوا ما يتوهمون انها “حياتهم الجديدة” في العام المقبل.
مثل هذه الحالة لا تنطبق على “العرب”، في هذه اللحظة.. بل لعلهم قد فقدوا الرغبة في التمني، أو باتوا عاجزين عن تمثّل “حياتهم الجديدة” في هذا العالم المختلف عما تخيلوه أو حلموا به على إمتداد القرن الماضي..
من “الثورة العربية الكبرى” التي أطلق نفيرها أمير لا كفاءة له الا نسبه الهاشمي، وبمكبر صوت بريطاني، مفيداً من هزيمة السلطنة العثمانية على يد التحالف الغربي واضطرارها إلى الخروج مدحورة من مختلف أنحاء الوطن العربي، إلى ابتداع “الدول” ممالك (العراق) وامارات (الاردن)، و”جمهوريات” مشلّعة (سوريا) أو مركّبة (لبنان المتصرفية)، تمّ استيلاد هذا الهجين من “الدول” غير القابلة للحياة، والمزروعة فيها أسباب الفتنة والتشقق وإستحالة النهوض “لاستعادة امجاد الامة”..
ها هي هذه “الدول” التي أقيمت في غياب أهلها، وغالباً خلاف إرادتهم ومصالحهم وتاريخهم ومنطق الجغرافيا الطبيعية، تعاني ـ حتى اليوم ـ معضلة إثبات الذات والقدرة على تأكيد وجودها: بعضها يعيش على “الهبات” و”الشرهات” الملكية و”الصدقات” الاماراتية و”الاعانات” الاميركية، وكل ذلك مشروط بما يذهب بمعنى “الدولة” فضلاً عن شعارات التحرر و”الثورة الكبرى” و”الاستقلال الناجز” الخ…
أما البعض الآخر فيَكتب له أسباب الحياة صاحب المشروع الذي سيتخذ – بعد اليوم – أسماء واضعيه: “وعد بلفور”، ثم “معاهدة سايكس- بيكو” وغيرها مع دخول الولايات المتحدة المسرح المشرقي في نهاية الحرب العالمية الأولى.
صار المشرق العربي “مزقاً” تحمل تسميات دول. تُركت الصحراء المثقلة بثروات الغاز والنفط جانباً لكي “تستثمر” كنوزها الهائلة الولايات المتحدة الاميركية بينما تقاسمت انحاءه بريطانيا (العظمى آنذاك) ومعها فرنسا، بحصة أقل، واخضعت فلسطين للانتداب البريطاني الذي سيتواطأ مع المشروع الصهيوني لإقامة “دولة اسرائيل” فتكون حاجزاً بين المشرق والمغرب، وتستنزف العرب الموزعين في دول شتى حتى تغدو ـ بعد حين ـ أقوى منهم جميعاً.
ها هي “المَزق” تقتتل في ما بينها: استقل الأغنياء بالنفط والغاز في أحضان “حماتهم” الغربيين بالعنوان الاسرائيلي الآن بوصفه “الممثل الشرعي” للمنطقة التي تم تزوير إسمها، بعد إرادتها، فغدت جهة جغرافية لا أهل لها ولا تاريخ لهم فيها، ولم يكونوا بُناتها على الدوام يتشرفون بهويتها، بكيانات اصطنعت على عجل، لم يكن لها ذكر في التاريخ وليس لها أي مبرر جغرافي، و”الحدود” ساقية هنا وتلة هناك تقطعها الاغنام والماعز بعزة المستقل!
.. وها قد استقل “الغاز” عن النفط، ولجأت “دولته”، التي لا تُرى بالعين المجردة، إلى اسرائيل وتركيا تحت العباءة الاميركية، تاركة طوابير الفقراء من الدول الشقيقة عند بابها، مع باب مفتوح على شريكتها في الغاز: الجمهورية الاسلامية في ايران.
العراق الذي فقد “جمهوريته البعثية” بعد المملكة الهاشمية مُزَق بعدد الطوائف أو أكثر (حتى لا ننسى العناصر والمكونات الاثنية)، ويعجز عن إعادة بناء دولته التي خاطب خليفتها هارون الرشيد الغيوم ذات يوم قائلاً: “امطري حيث شئت فإن خراجك عائد إلي!..”
وسوريا التي دمرت الحروب الاهلية – العربية / الدولية دولة بني أمية فيها، من معاوية إلى عبد الملك بن مروان انتهاء بالدولة مقطّعة الاوصال التي لم يتردد قادتها ونخبها من هجر مواقعهم الرسمية للقتال في فلسطين.. ثم من اجل اقامة أول دولة للوحدة العربية في التاريخ الحديث، تحت قيادة جمال عبد الناصر، تحاول اليوم حفظ كيانها (الذي كان مرفوضاً) بعدما توزعت أرجاؤه تحت قوات حلفاء (الروس) وأعداء (الاتراك) ووسطاء شريرون وطامعون (الولايات المتحدة الاميركية).. وتمّ فرز شعبها عنصرياً: فهنا “عرب” وهناك “بدو” وهنالك “اكراد” وثمة “سريان” قبل التشطير المذهبي والتهجير القسري الذي دفع إلى المغتربات المهينة أكثرمن سبعة ملايين ذلك الشعب الذي كان راية النضال العربي من اجل التحرير والتحرير، بدءاً بفلسطين وانتهاء بالجزائر.
لبنان يعلك الوقت بلا دولة، وان كانت مساحته الصغيرة تتسع للدول جميعاً، ويتبارى “زعماؤه” و”وجهاؤه” في نهب الداخل والمحيط (كسماسرة) ولا من يحاسب.. ويتركون دولته بلا حكومة لشهور طويلة، وأهله في شغل شاغل عنها بهمومهم الثقيلة، وأجياله الجديدة “تهاجر” من دون أن تعرف عنوان مهجرها أو مصيرها فيه، ولكنها تعرف أن لا مستقبل لها في بلادها!
إلى أين من هنا؟
السعودية تلملم جثة جمال خاشقجي المقطعة في اسطنبول، وتدفع “الدية” بعض ثروتها الهائلة، لاسترضاء ترامب واردوغان، ومسح اثار الدم عن خنجر الامير محمد بن سلمان.
ودولة الامارات ترى نفسها امبراطورية، والشيخ محمد بن زايد “يأمر” حاكم مصر، ويقاتل في اليمن وكذلك في ليبيا، و”يحتل” اقطاراً في افريقيا، ويسترهن دولاً عربية، ويعترف بكيان العدو الاسرائيلي، غير هياب ولا وجل!
مع اطلالة السنة الجديدة، وعلى الرغم من كل هذه الاثقال من الهزائم والهموم التي تتراكم على طريق المستقبل، لا بد من الأمل.. ومنبع الامل الثقة في هذا الانسان العربي وقدرته على التغيير. لقد عاش العرب في عصرهم الحديث محناً ثقيلة، وعانوا من أثقال هزائم خطيرة لكنهم لم يستسلموا.. إن نظرة واحدة إلى ما تشهده فلسطين جميعاً، بعنوان فتية غزة ونابلس ورام الله والقرى التي نتعلم اسماءها وفتياتها، تعيد بث الأمل في الصدر، وتعيد اعمال العقل في احوالنا لنعرف الطريق إلى المستقبل.
تفاءلوا بالخير، تجدوه..
وكل عام وأنتم بخير…
تنشر بالتزامن مع السفير العربي