لن أقول إن قمة العشرين التي انعقدت نهاية الأسبوع الماضي في هامبورج مختلفة عن سابقاتها من قمم العقد الأخير. لعلها فيما اعتقد تشابهت مع سابقاتها أكثر مما اختلفت. إذ رأيت في الأجواء التي سبقت انعقادها وساهمت في التحضير له ما أراه عادة في القمم المماثلة، رأيت تحركات، أعتبرتها مؤشرات ذات مغزى، بعضها يدفع إلى الظن في أن المؤتمر قد يسفر عن تطور مثير أو على الأقل يثير نقاشا مهما.
***
رأيت مثلا الرئيس الصيني ورئيس وزرائه يزورون ألمانيا ثلاث مرات خلال فترة قصيرة جدا. يستطيع مراقب دقيق التعليق بأن القيادة الصينية كانت حريصة على أن تشارك ألمانيا في وضع أجندة القمة. كلاهما؛ ألمانيا والصين، وحدهما بين الكبار، أو ربما مع فرنسا، يشعر بخطورة التهديد المتربص للعولمة. أمريكا، القطب الأعظم في النظام الرأسمالي العالمي، تعلن على لسان رئيسها أنها كانت ضحية العولمة. العولمة، في نظر السيد ترامب والتيار الذي يقوده داخل اليمين الأمريكي، كانت حتى الآن علاقة بين فائز وخاسر وأمريكا خرجت منها طرفا خاسرا. السيدة ميركيل، على العكس، ترى أن العولمة كانت بين فائز وفائز، فمن خسر في قطاع عوض الخسارة بفوز في قطاع آخر. المهم في نظرها أن يفلح أنصار العولمة في هذا المؤتمر في إقناع الرئيس ترامب بأن لا يفرض ضرائب جديدة على السلع والمنتجات المستوردة من أوروبا والصين. مهم أيضا أن تنجح السيدة ميركيل والسيد ماكرون وبمساعدة من الرئيس الصيني في منع توحد الزعيمين الأمريكي والروسي نحو تكثيف جهود بلديهما في اتجاه محاربة العولمة.
بدت الأجواء المحيطة باستعدادات عقد المؤتمر ملبدة بغيوم كثيفة، غيوم النية الأمريكية المعقودة على شن حرب تجارية تحت شعار “أمريكا أولا”، وغيوم النية الروسية التي تسعى إلى توسيع الفجوة بين أوروبا وأمريكا والمحافظة لأطول مدة ممكنة على الحال الراهنة للمعسكر الغربي، غرب بدون أمريكا قائدا فاعلا أو مسيرا حكيما.
***
لم تكن الصين وحدها الدولة الكبرى اقتصاديا التي انتابها القلق الشديد على مصير حرية التجارةالعالمية. جذب انتباهنا منذ وقت غير قصير، وبالتحديد منذ دخل السيد ترامب البيت الأبيض، الزيارات المتعددة التي قام بها رئيس الوزراء الياباني ووفود يابانية كثيرة إلى واشنطن. لم يخف اليابانيون خلال اتصالاتهم قلقهم إزاء أمرين، أن يتخلى الرئيس ترامب عن التزام بلاده ضمان أمن دول شرق وجنوب شرق آسيا ويتخلى عن التزامها ضمان حرية التجارة العالمية وعدم إقامة عوائق وحوائط جمركية. بات واضحا للذين اهتموا باستطلاع أجواء القمة عشية انعقادها أن اليابان بتوقيعها في اللحظة الأخيرة اتفاقا للتجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبي، العضو العشرين في القمة، تعمدت تنبيه أمريكا وروسيا إلى أن كتلا اقتصادية كبيرة سوف تتمترس دفاعا عن مبدأ حرية التجارة بخاصة والعولمة بصفة عامة. أرادت اليابان أيضا عرض استعدادها أن تلعب لأول مرة في تاريخها الحديث دورا يناسبها في أي تجربة لتشكيل شكل من أشكال القيادة الجماعية لسد الفراغ الناتج عن إصرار الرئيس ترامب إخراج أمريكا من مركز القيادة.
كان الشائع في أوروبا حتى ليلة انعقاد المؤتمر أن الصين عرضت على السيدة ميركيل مشروع قيادة ثنائية. استند من أشاعوا الخبر إلى مقال بتوقيع الرئيس الصيني نشرته صحيفة دي فيلت الألمانية جاء فيه قوله “إن ألمانيا والصين يساهمان معا في أمن واستقرار ورخاء دول جوارهما إذا تعاونا معا في تنفيذ مشروع “حزام واحد وطريق واحد “. لاحظنا وقتها أنه اختار ألمانيا شريكا ولم يختر الاتحاد الاوروبي، على غير ما فعلت اليابان. لاحظنا أيضا بعض ردود الفعل الأوروبية وبخاصة تلك التي نبهت إلى أن العولمة كل متكامل، وبالتالي لا يمكن أن تقبل السيدة ميركيل المشاركة في القيادة مع الصين التي لا تلتزم جوانب أخرى في العولمة ليست بأي حال أقل أهمية من الاقتصاد والتجارة، من هذه الجوانب الديموقراطية واحترام الحريات والحقوق. الغرب يعرف أن الصين تفهم العولمة فهما مختلفا عن فهم الغرب لها. إن من يقرأ جيدا وبعقل منفتح تفاصيل العمل الجاري في تنفيذ مشروع حزام واحد وطريق واحد، أو ما كان يعرف في تراث الرحلات بطريق الحرير، يكتشف أن الصين تريدها أن تكون في النهاية عولمة بحروف وأفكار وثقافة صينية، تماما كما أرادت أمريكا أن تكون العولمة التي صاغتها وقادتها عولمة بحروف وأفكار وثقافة أمريكية. وبالفعل تحقق لها ما أرادت.
***
احتوت أجندة المؤتمر كما صاغتها حكومة السيدة ميركيل على البنود الخمس التالية: الأمن والمناخ والطاقة والهجرة واستدامة التنمية. كانت آمالها كبيرة في نجاح المؤتمر واستثمار هذاالنجاح في الانتخابات القادمة بعد شهرين. أرادت أن تدخل هذه الانتخابات بسمعة “امرأة العجائب”، أي المرأة الأقدر على تجاوز الصعاب وبخاصة تلك التي يتسبب فيها الرجال. فاجأتها قبل انعقاد المؤتمر أجواء غير مشجعة وطاقة سلبية نتيجة أفعال بعض القادة من زملائها. كان الرئيس ترامب قد ألقى للتو خطابا في وارسو وهو في طريقه إلى ألمانيا. كان الخطاب من نوع القنابل العنقودية. هاجم إعلام وصحافة بلاده وبخاصة القناة التلفزيونية الأشهر. بهذا الهجوم جذب انتباه الإعلام الأوروبي بعيدا عن مؤتمر القمة والاستعدادات الجارية. تعمد الإشادة بحكومة وارسو المتشددة يمينيا والمتمردة على المبادئ الليبرالية التي تدعو السيدة ميركيل إلى التمسك بها وتنوي أن تخصص لها مكانا في بيان القمة. كان الرئيس الأمريكي بتصرفاته أحد أهم أسباب إحاطة المؤتمر بطاقة سلبية حين قرر منذ الساعات الأولي أن لا يختلط كثيرا بأقرانه تعاليا أو تجاهلا أو عجزا عن المشاركة. ظهر معظم الوقت منعزلا. بمعنى آخر أكد الصورة التي بدت فيها أمريكا للعالم منذ تولى مسئوليتها دونالد ترامب. تكمن الخطورة في وصفه بأنه بدا بين الحاضرين رئيسا منزوع القوة والقدرة.
الطاقة السلبية التي كانت محل ملاحظة بعض المراقبين فمسؤول عنها أيضا وإلى حد كبير العلاقة الملتبسة بين الرئيسين بوتين وترامب كما كشفها اللقاء “الغريب شكلا وإخراجا وموضوعا” الذي جمعهما على هامش المؤتمر. احتار الناس في فهم ما يحدث بينهما. هل ببالهما اقتسام النفوذ في العالم كعهدهما به في زمن القطبين؟ هل يقع الاتفاق الجانبي على هدنة في جنوب غرب سوريا في هذا الاطار؟ هل صحيح أن المؤسسة الأمريكية سمحت لترامب باللهو بعض الوقت وببعض الأشياء والمسائل الهامشية وفي بعض القضايا الخارجية ولكن تحت رقابتها، فهي المؤسسة التي تعرف جيدا إمكانيات رئيسها وهي في الوقت نفسه المؤسسة التي لا تطمئن إلى روسيا، وبخاصة روسيا التي يقودها فلاديمير بوتين الرئيس المخضرم والمدرب في أجهزة المخابرات والمعروف بدهائه، والمعروف أيضا بأنه لم ولن يغفر لأمريكا ما فعلته ببلاده عقب سقوط الشيوعية، وبأنه سوف ينتقم مهما طال االوقت. الرئيسان في نظر المؤسسة الأمريكية وفي نظر المخضرمين من قادة أوروبا، مثل ميركيل، غير متساويين في الخبرة أو الذكاء أو فن القيادة أو المعرفة بالعالم. يتصادف أيضا أنهما معا يكرهان الوحدة الأوروبية ويمقتان العولمة ويتآمران ضدهما.
***
انتهت أعمال المؤتمر دون أن يصحب النهاية صخب وتهليل. غادر ترامب مخلفا وراءه غضبا أوروبيا وإصرارا على متابعة تنفيذ توصية ميركيل بضرورة أن تعتمد أوروبا على نفسها ولا تنتظر من أمريكا قيادة أو تسييرا. عاد إلى واشنطن ممثلوا المؤسسة الحاكمة أشد حرصا على إصلاح أي ضرر يكون قد أصاب المصالح الأمريكية نتيجة بعض قناعات ترامب الساذجة، ومنها على سبيل المثال نيته في عمل استخباراتي مشترك مع حكومة الرئيس بوتين، وتدخله المباشر وغير الموفق في أكثر من شأن فيما صار يعرف بأزمة قطر، وبمعنى أدق أزمة نظام الخليج العربي. كانت القمة في بعض جوانبها كاشفة لحال الارتباك في علاقة الرئاسة الأمريكية بأجهزة الحكم الأخرى، وكاشفة في الوقت نفسه عن تغيرات واضحة في تراتيب القوة الدولية: تراجع شديد لمكانة المملكة المتحدة وتقدم شديد أيضا لمكانة الصين واليابان وأدوار جديدة للقطب الروسي وانحسار منتظم لمكانة الولايات المتحدة، وعدم استقرار خطير في الشرق الأوسط وأمريكا الجنوبية وأفريقيا وجنوب شرق آسيا.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق