في هذه الحلقة من ذكريات رئيس تحرير “السفير” طلال سلمان العربية، نذهب إلى العراق في نهاية الستينيات، ونستعيد معه المقابلة الأولى التي أجراها مع صدّام حسين، نائباً للرئيس أحمد حسن البكر. كانت هذه المقابلة سبقاً صحافياً عرّفت القرّاء بالرجل الأول في العراق، وعرّفت سلمان إلى بلد يسيطر عليه شبح الرعب. شبح لم يغادر العراق يوماً، منذ بدء الكون ربما!
عندما عاد طلال سلمان إلى مجلة “الصيّاد” مجدّداً، عمل مراسلاً عربياً محققاً أحد أحلامه المهنية، وكانت أولى مهماته رحلة إلى الأردن قابل فيها قيادات الثورة الفلسطينية وعلى رأسها ياسر عرفات. هذه الحوارات التي أجراها قدّمته إلى الناس مراسلاً ناجحاً “والدليل أنه بعد عودتي إلى لبنان، أرسلوني إلى العراق”.
كان سلمان قد زار بغداد أول مرة في تموز/ يوليو العام 1964 “لكني لا أعتبرها رحلة لأني لم ألتقِ خلالها أحداً بشكل جدي، لم أجرِ أي حوار، وكانت درجة الحرارة في حينه تتجاوز الخمسين”. أما هذه المرة، فنحن في العام 1969، بعد شهور قليلة على نجاح ما يعرف بحركة 17 تموز/ يوليو 1968، التي أطاحت برئاسة عبد الرحمن عارف، وكانت بقيادة أحمد حسن البكر ونائبه صدام حسين.
اللقاء مع “أبو عُدي”
قبل سفره إلى العراق، تزوّد طلال سلمان من صديقه جان عبيد باسمَيْ شخصَيْن من القياديين في حزب البعث، تواصل معهما فور وصوله إلى بغداد. أحدهما كان وزيراً قريباً من صدام حسين، فيسّر له أمر اللقاء مع الأخير. “
أجريت لقاء طويلاً مع السيّد النائب أبو عُدَيْ في بيته، وعرّفني إلى زوجته وأولاده. كانوا صغاراً وكانت ربما المقابلة الأولى التي يجريها صدام حسين مع صحيفة عربية، بعدما بدأ اسمه يتردّد بوصفه الرجل الأول في العراق. كنت مرتاحاً خلال هذه اللقاء وطرحت أسئلة كثيرة يهمّ أي صحافي عربي معرفة إجاباتها لأننا كنا نريد أن نعرف الرجل ونعرف أفكاره وآراءه”.
يذكر سلمان أنها كانت مقابلة مهمة لأن صدام حسين “حكى الكثير من الأمور التي كانت محظورة أو شبه محظورة، وحاول أن يلطّف كلامه عن جمال عبد الناصر عندما سألته عنه. استذكر معي أنه في العام 1963 كان ضمن المجموعة التي حاولت اغتيال عبد الكريم قاسم، وقد أصيب يومها لكنه استطاع الهرب. هذه الحادثة موجودة في ذاكرة العراقيين بوصفها واحدة من بطولات صدّام، تسمعهم يروون أنّه أصيب في فخذه يومها، وبرغم ذلك، أكمل سيره ومشى في زاروبين أو ثلاثة إلى أن وصل إلى شارع رئيسي حيث أوقف سيارة تاكسي، وخلال وجوده في السيارة، أخرج شفرة من جيبه وراح يعمل على إزالة الرصاصة من فخذه”.
بعد محاولة اغتيال قاسم، نجح صدّام حسين في الوصول إلى سوريا ومنها إلى مصر “حيث عاش لفترة لم تكن ظريفة بالنسبة إليه”. هذا ما استنتجه طلال سلمان من خلال رواية محدّثه: “قال إنه أقام في فندق شعبي في الاسماعيلية، عند طرف ميدان التحرير، وكان يحصل على مكافأة شهرية ليعيش، فكانت لديه مرارة أنهم لم يعاملوه في مصر بحسب تقييمه لنفسه”.
حزب المخابرات
خلال هذا اللقاء، تكوّن لدى سلمان الانطباع بأن صدّام حسين هو صاحب القرار في العراق، وليس أحمد حسن البكر. “الأخير كان ضابطاً كبيراً وله احترامه عند العسكريين برتبته، وبتاريخه، لكنه كان كبيراً في السن، أما صدام فشاب طموح، يكره الجيش ويمسك بالمجموعة الفاعلة بالحزب، وكان رجلاً بلا رحمة تخلّص من معظم القيادات المحيطة به بشكل أو بآخر، حادث طائرة من هنا، تدهور سيارة من هناك، محاكمة آخرين، إلخ”.
ممسكاً بتوقيع البكر في يده، عالج صدام حسين الكثير من التهديدات التي قد تطاله: “من جهة، يوجد في العراق الكثير من المشاكل، الأكراد، الأحزاب الأخرى التي كانت موجودة بشكل أو بآخر، والجيش. أي أنه كانت هناك ثلاث إلى أربع جهات مخاصمة له ويريد تصفية حساباته معها. ومن جهة ثانية، كانت تجربة 1963، عندما تسلّم حزب البعث السلطة في العراق ثم فقدها بعد عشرة أشهر، لا تزال حاضرة في ذهنه، لذا كان حذراً كي لا تتكرّر، فأتى بجيل ثان إلى المخابرات، يعني فرز الأجهزة الأمنية جيداً ويمكن القول إن حزب البعث صار عملياً جهاز مخابرات، ولم يكن هناك من مجال للرحمة، أي مشتبه به يكون مصيره إما السجن وإما القبر”.
كان اللقاء مع صدام حسين سبقاً صحافياً، استكمله طلال سلمان بلقاءات مع مجموعة من القيادات الحزبية في البعث، الشيوعي، وحركة القوميين العرب. “أتذكر أني في نهاية لقائنا، طلبت منه إذناً لمقابلة كلّ من عبد الإله النصراوي (الأمين العام للحركة الاشتراكية العربية في العراق) وخيرالدين حسيب (الرئيس السابق لمركز دراسات الوحدة العربية) اللذين كانا في السجن. كنت قد تعرّفت إلى النصراوي، الذي كان في حركة القوميين العرب،عندما كان يتردّد إلى بيروت ومجلة “الحرية”، أما حسيب، فقد تعرّفت إليه في رحلة سابقة إلى العراق في العام 1964”.
حصل سلمان على الإذن وقابلهما، كما التقى بطاهر يحيى (رئيس حكومة سابق)، وبعد عودته دعاه صدام حسين إلى غداء في فندق بغداد، “الذي كان وقتذاك أهم فنادق العاصمة، وكان قد دعا أيضاً القيادة القومية والقيادة القطرية. جلست على كرسي يقابله، ولم يتأخر قبل أن يسألني: شفت أصحابك؟، قلت: نعم. قال: وما رأيك؟ قلت له: إني غير قادر على فهم سبب سجنهما، فهما لا يخيفان أحداً، من المعيب أن يكونا في السجن”.
وقبل أن ينهي سلمان كلماته، إرتبك الحاضرون. “كان هناك من وقعت الشوكة من يده، من وقعت السكين، من راح يركل رجلي تحت الطاولة. ساد ارتباك إذ كيف يمكن أن أحكي مع صدام حسين بهذه الطريقة. نظر إليّ صدام وقال: “يخرجون”، وبالفعل، لقد أفرج عنهما لاحقاً”.
خلال هذه الزيارة، التقى سلمان أيضاً بعدد من الشيوعيين الذين قدموا لزيارته بعدما عرفوا أنه التقى بصدّام حسين وأنه قد يلتقيه مجدداً، كما زاره قوميون عرب. “كلّهم كانوا خائفين، يسألون: ماذا قال عنّا؟”.
تكرّرت الزيارات إلى العراق، وتكرّرت اللقاءات مع صدام، “أعتقد أني التقيته خمس مرات، لم تكن كلّها للنشر، ورغم ذلك بقي شخصية غامضة بالنسبة لي، لا تستطيعين أن تكتشفيها تماماً”. كذلك كتب سلمان سلسلة من التحقيقات عن البلد “الذي لم يكن معروفاً كثيراً إذ لم يذهب الكثيرون إليه في أيام عبد الكريم قاسم، وفي زمن عبد السلام عارف ثم عبد الرحمن عارف الذي كان دوره هامشياً”. وفي إحدى زياراته، قابل طلال سلمان عدداً من قيادات “العهد المُباد” في السجن، منها عبد الرحمن البزّاز (رئيس الوزراء في عهد عبد السلام عارف) “ورأيت مناظر لا يمكنك تقبّلها. كانوا ينفذّون كلّ يوم جمعة وجبة من الإعدامات في ساحة التحرير في بغداد. يعدمون المدنيين شنقاً والعسكريين رمياً بالرصاص، بعدها يعلّقون المشانق في ميدان التحرير، أي أنهم يعدمونهم مرتين، ويأتي العراقيون لرؤيتهم. هناك منظر لا أنساه لرجل عراقي عجوز يمسك بأحد المعدومين ويقول له: تفه عليك، خاين ابن الخاين”.
هدية صدام.. لربيعة
في لقاء أخير مع “السيّد النائب”، لم يكن مقرّراً من قبل، إذ كان سلمان في طريقه إلى المطارعائداً إلى بيروت عندما تحدّد الموعد، دخل إلى مكتب صدّام حسين الفخم المصنوع من خشب الجوز. قبل دخوله، أبلغ سلمان المرافق باضطراره إلى العودة سريعاً إلى بيروت لأن زوجته حامل ويجب أن يكون إلى جانبها. “جلست على طرف المقعد فقال لي أبو عُدَيْ: لا تخف. لن أؤخرك عن موعد الطائرة. ثم استدار وذهب إلى خزانة في قلب ذلك الخشب الأنيق الذي يغطي الجدار، وعاد وفي يديه صندوق من خشب الجوز، وتقدّم مني مبتسماً بينما أخذت أرجع بظهري نحو الحائط. ولقد انتبه صدام إلى ما أفكر فيه: لا عيني. مو فلوس. مو فلوس. هذه هدية للمولود الجديد”.
فتح سلمان الصندوق بهدوء فإذا فيه مسدس فخم. “صعقت محاولاً الاعتذار عن قبولها ولكنه بادرني بالقول: قلت لك مو ليك مو ليك. هذه للمولود. ولم يكن أمامي مجال للاعتذار عن قبول هدية جاءت لابنتي ربيعة قبل أن تولد، وإن كنت قد باشرت بالتفكير بالطريقة لتهريب هدية نائب الرئيس إلى بيروت”.
استدراج البكر إلى الكلام
وكما حصل سلمان على ذكرى من صدّام في اللقاء الأخير بينهما، كانت هناك حادثة طريفة خلال زيارته الأخيرة إلى العراق في 12 تموز/ يوليو 1970، خلال احتفالات عيد الثورة. دُعي سلمان يومها ضمن وفود الصحافيين القادمين من مختلف الدول، وكانت اللياقة تقضي بأن يطلب الصحافيون موعداً لزيارة “السيّد الرئيس”، فتم تحديد الموعد بعد تردّد وتأجيل لأكثر من مرة.
في اليوم المحدّد، تحرّك الصحافيون في طابور من السيارات تحت شمس تموز العراقية الحارة. “أوقفتنا الحواجز العسكرية مرة أولى، ثم مرة ثانية ولدقائق طويلة. كان صعباً أن نبقى في السيارات، والأصعب أن نخرج إلى الهواء الملتهب تحت شمس بغداد التموزية”.
حين وصل الوفد إلى المقرّ الرئاسي “نشبت معركة شرسة بين الجهة الحكومية صاحبة الدعوة وبين جماعة البروتوكول، اضطررت شخصياً لأنني أعرف بعضهم، إلى فضّها، مخافة أن يأخذ الصحافيون الأجانب فكرة سيئة عنّا”.
أخيراً، وبعد حوالى الساعة من الموعد المحدّد، “أُدخلنا إلى قاعة أعدّت على عجل لاستقبالنا. وزّعنا مسؤول البروتوكول على مقاعد مستعارة في انتظار “السيد الرئيس”. وكان من سوء حظي أن البكر تجنّب المدخل الرئيسي للقاعة ودخل من باب جانبي يقع خلفي مباشرة. وهكذا كنت أول من رآه أمامه فانفجر في وجهي بغضب وصوته يعصف بي وهو يقول: ترى أنا مو زمّال (مكاري)… أنا لا ينفرض عليّ هكي موعد”.
حاول سلمان أن يحجبه عن بقية الزملاء “المصعوقين بهذا الغضب العراقي”، لكنه تجاوزه وتوجه إلى المنصة، أدار بصره في الحاضرين ثم نبر بغضب “ترى ماكو (لا يوجد) أسئلة. أنا نادوني عشان أسلّم عليكم وبس”. حاول بعض الصحافيين خرق الصمت بالتحايل: لو سمح السيد الرئيس، سنتحدث خارج السياسة، في الأدب والشعر، ذكريات الطفولة والشباب في العهد الملكي. لكن البكر رفض هذا العرض المغري واعتصم بالصمت الذي ساد طويلاً “إلى أن فوجئنا بزميل من اسكتلندا يتوجه إلى البكر سائلاً: طالما أن سيادتك لا تريد أن تحدّثنا، فهل تسمح لي بأن أخبرك لماذا خسر حزبنا الانتخابات في بريطانيا؟ ظهر الفضول على وجه البكر، وفوجئنا به يقول: هاه… صحيح. لماذ اخسر؟ واندفع زميلنا الشاطر يحدّث البكر عن الانتخابات البريطانية، والبكر يتابعه بفضول ظاهر، قبل أن يتسلل الزميل إلى طرح أسئلته العراقية”.
الزيارة الأخيرة.. سياحية
هذه الزيارة كانت أيضاً سياحية. فقد نظمت للوفود المشاركة رحلات طالت مختلف مدن العراق. “ذهبنا إلى البصرة بالقطار، وزرنا شط العرب، والأهوار، هذه المنطقة الفريدة من نوعها. الأهوار هي مستنقعات بالمعنى الحقيقي، لكنها مستنقعات نظيفة نسبياً، والناس شيّدت بيوتاً فيها من النخل، نخلة على جذع نخلة. يعني عملياً في قلب الماء، يتنقل أهلها بالزورق، أو المشحوف كما يسمونه. حضرنا عرساً بالصدفة هناك، ونقلوا العروس بالمشاحيف على وقع أهازيجهم الشعبية. منطقة جميلة، لجهة الطبيعة ولجهة العادات، يعيشون من السمك والنخيل، بيئتها مميزة ولا يوجد منها الكثير في العالم”.
كما زار سلمان الشمال، الموصل، سنجار، “وزرنا بابا الأيزيديين. سأله أحدنا: الأيزيديون نسبة لمن؟ ليزيد؟، قال: من يزيد؟ يزيد بن معاوية. قال: لا نحن قبل ذلك بكثير، قبل الإسلام بكثير، وقبل المسيح بكثير. بكثير، منذ متى؟ ابتسم البابا وقال: من بداية الخلق”. يتابع سلمان: “تقول الأسطورة إنه عندما أغوت حواء آدم بتفاحة، وغضب الله على آدم، صرخ فيه تلك الصرخة المهولة، فهرب آدم ليختبئ، دخل إلى الخسة، فلما سمعت صوت الرب فتحت أوراقها إجلالاً، بعدها اختفى تحت غطاء ذنب الطاووس، لذلك يكاد يكون هذا الطائر معبوداً عندهم. يقام زيّاح مرة في السنة، يخرجون فيه الطاووس الموجود عندهم وفيه كلّ كنوز الأرض، لأن كلّ ذنب الطاووس من الزمرد واللآلىء والذهب. نحن لم نره لكننا رأينا الصور. الأيزيديون ناس طيبون، أقلية تعيش عيشة عادية وهادئة ولا تثير المشاكل”.
وبناء على وصية والدته، لم يفوّت طلال سلمان زيارة كربلاء “التي تعني لأمي كثيراً. توجهنا بسيارة من وزارة الإرشاد (أي وزارة الإعلام) وعندما وصلنا إلى مدخل المدينة وجدناً طابوراً من السيارات يتراوح عددها بين 30 إلى 40، كلها من نوع مرسيدس، سوداء اللون. لم أعتبر نفسي معنياً، لكني فوجئت بسيارتنا توقفت أمام هذا الطابور، ويقال لي: السيّد المحافظ قادم لاستقبالك. وهذا يعني أن السيد قائد الشرطة سيأتي أيضاً، وستأتي معه الشرطة، والمحافظ الذي سيرافقه رؤساء الدوائر، إلخ. سلّمت على المحافظ، شبيب المالكي، الذي صار وزيراً لاحقاً، وقلت له لن أتحرّك من مكاني في ظلّ هذا الموكب، وإلا أعود. بعد نقاش قلت: أنا لا أريد إلا قراءة الفاتحة عن روح أمواتي وأن آخذ معي بعض التراب للحجة الوالدة. صرف المحافظ نحو 90% من الموكب واتجهنا إلى كربلاء. لكن كيف ستزورها وتزور الضريح والمحافظ إلى يمينك والحرس إلى شمالك؟ لا رمزية للزيارة عندها. حتى عندما طلبت أن آخذ معي “قماشاً” من الذي يربطه الزوّار بالقفص، راحوا واشتروا لي ثوبَيْ قماش جديدَيْن، أي لا بركة لهما. قماش تشتريه من أي دكان. استقبالهم كسر كل رمزية الزيارة”.
الاكتفاء.. بالمهنة
كانت هذه الزيارة الأخيرة التي يقوم بها سلمان إلى العراق. هو من قرّر ذلك بعدما بدأ الكلام يكثر من قبل بعض الحزبيين في لبنان بأنه يريد أن يفتح جريدة بتمويل من صدّام حسين، ولا يخفي أنه في هذه الزيارة كان العرض قد أصبح شبه جدي: “لمّح لي صدام إنو عيني إيش تطلب نحنا حاضرين وهذا أخوك ابو عدي ما يخيبك أبداً. عندها قرّرت أن تكون هذه زيارتي الأخيرة. اكتفيت من علاقتي به ومن زياراتي بما أنجزته مهنياً، فقد قمت بعمل جيّد هناك وربما لعبت دوراً ولو محدوداً بالتعريف بالعراق، وصرت معروفاً أكثر كمراسل عربي. ففي بداية السبعين لم يكن هناك الكثير من الصحافيين النجوم، وكان يكفيني أن تأخد عني الوكالات بعض الأخبار وأن يذكر اسمي وأصبح معروفاً أكثر”.
يبدو هذا القرار غريباً بالنسبة إلى صحافي طموح، يمكنه أن يحقق حلماً، فلماذا تهرّب منه؟ “
فضّلت الابتعاد لأن أخواننا الحزبيين في لبنان، عندما لاحظوا أن علاقة نشأت بيني وبين صدام حسين، وأنه صار يستقبلني باحترام ويحكي لي بعض الأسرار ويسألني عنهم، تضايقوا. خصوصاً أني قلت له مرة: لا تتدخل في حزب لبنان (البعث)، دعهم يتدبّرون أمورهم، إنهم مناضلون فقراء ولأنهم فقراء هم صادقون. إغراقهم بالمال قد يفسدهم. لم يعجبه كلامي، قال لي: لا، ما يصير. طالما الحزب حاكم في العراق ما يجوز انو في بعثي يتبهدل، لازم يطبعوا أحسن طباعة بأفخم مطابع على أفخم ورق. كما لم يعجب كلامي الأصدقاء هنا في لبنان، ولم أحب أن أبدو كمن يزاحمهم. والأهم أنه لم يكن وارداً بالنسبة إليّ العمل لا مع صدّام، ولا مع أي نظام عربي آخر”.
حتى مع نظام معمّر القذافي؟
القذافي قصة أخرى
ترقبوها في الحلقة المقبلة
صبري “الأثوري”
كما التقى طلال سلمان بقيادات حزبية في العراق، تعرّف أيضاً إلى صبري، السائق الطريف. “نصحني الشخص الذي كان يؤمن لي التاكسي من الفندق الكائن في شارع الرشيد في بغداد أن أمشي قليلاً حتى نهاية الشارع وأستقلّ سيارة لأن أجرة تاكسي الفندق مرتفعة، ولأن هناك نوعاً من السيارات يمنع مروره في الشارع لأنه قديم”. هكذا تعرّف سلمان إلى صبري، العراقي الآثوري (كما يعرّف الأشوري عن نفسه) “رجل لطيف وجسمه ممتلئ. صار يرافقني يومياً وفي أحد الأيام قلت له: صبري رايحين مشوار، أنت ما بتسكر؟، قال لي: عيب أستاذ، ماكو (لا يوجد) عراقي ما يسكر. قلت له: طيب خذني إلى المكان الذي تسكرون فيه. قال: لا يجوز. أصرّيت على طلبي وبعد إلحاح هائل، وافق. لكن كيف؟ أجلسني، ظهري إلى الحائط وجلس هو مقابل الباب، وبقي متأهباً. قدّموا لنا العرق، الترمس، الحمص بليلة، واللبن. بعد قليل، دخل شخص إلى المقهى يرتدي عباءة وعقال وكوفية وحصلت مشكلة، طارت الكراسي وطارت الطاولات، وصرت أنا بالأرض، وصبري يقول لي لائماً: أما قلت لك يا أستاذ”.
بعد سنة أو سنتين، كان سلمان خارجاً من سينما أمبير في بيروت قرابة منتصف الليل “سمعت صوتاً يناديني، التفت، فوجدت رجلاً يرتدي قبعة، رفعها عن رأسه، وقال لي: ألم تعرفني؟ أنا صبري. أهلاً صبري، ما أخبارك؟ قال لي إنه كان في أميركا عند أخته وأقاربه لكنه لم يحبّ البقاء هناك واختار العودة إلى بغداد”. فهل بقي صبري في بغداد بعد كلّ ما حصل في أرض الرافدين؟
مهى زراقط