كنتُ كُلّما عُدتُ من باريس الى بيروت منذ مطلع التسعينيات، أزورُ صاحب جريدة ” السفير” الأستاذ طلال سلمان، ليس لأني كنتُ مُراسل الصحيفة في فرنسا فحسب، وإنّما لأنَّ هذا الإعلاميّ الكبير جزءٌ مُضيءٌ من ذاكرتنا العربيّة الصافية، ومن ذاكرة بيروت بكلّ إشراقِها ومصائبها. كيف لا، وإحدى تلك المصائب كادت تودي بحياته حين نجا بأعجوبة من محاولة اغتياله تحت منزله.
كلّما صعدتُ الى الطابق السادس في المبنى الواقع في نزلة السارولا بين منطقتي فردان والحمراء، كنتُ أجد مكتبَه خليّة نحلٍ حقيقيّة، تعجُّ بالسياسيّين العريقين المخضرمين، أو بالطامحين لمنصب سياسي. وتعجّ كذلك بالمثقّفين والكتّاب ورجال الفكر ونجوم الفن الملتزم الأصيل. وبين زائر وآخر، كان هاتفُ طلال سلمان الذي لا يهدأ، يحملُ صوت رئيسِ جمهورية أو حكومة أو وزير من لُبنان أو الدول العربيّة التي أحبّها حتّى صارت بعضًا من دمِ شرايينه والعروق. فيجيبُ بصوته الرخيم الخفيض بكلامٍ جريء ممزوج بروحٍ مرحة دائمة مهما تكسرّت النوائب على المصائب في الجسد العربيّ.
كنتُ أفرح وأعتزّ بانتمائي الى صحيفة رفعت شعار ”صوت الذين لا صوت لهم” وكانت صوت العرب في لُبنان، وصوت لُبنان في الدول العربية. وكان طلال سلمان نموذجًا فريدًا لصاحب مؤسّسة يعتزّ بالعاملين معه، ويفتح لهم الأبواب بدلاً من إغلاقِها حسَدًا كما يفعل أصحاب مؤسّسات الزمن السيّء الذي نحن فيه. فكان كُلّما حضرتُ من باريس، وغالبًا ما كان يحضُر أيضا الزميل والصديق العزيز هشام ملحم المراسل السابق لصحيفة “السفير” في واشنطن، يصحبُنا معه الى معظم اللقاءات السياسيّة، ونختم جولاتنا تلك والتي كان فيها هو سيد الجلسة بغزارة معلوماته ودقّةِ تحليله وصدقِ نُصْحه، وليس السياسي الذي نلتقيه، بعشاءٍ لطيف وفنّي في أحد مطاعم بيروت.
أقفلت ”السفير” أبوابَها قبل سنواتٍ قليلة، فشكّلت لنا جميعًا صدمةً ما كُنّا نُحبّ أن نعيشَها في زمن انهيار منظومة الاخلاق الإعلاميّة، وزمن اشتعال الفتن الإعلامية والمحاور الإعلامية، وتحوّل الاعلام الى منابر للقدح والمدح أو الى أبواقٍ للمحاور المتطاحنة فوق أشلاء الجسد العربيّ.
صحيحٌ أن ”السفير” كانت تتبنى وجهةَ نظرٍ يساريّة الى حدّ ما، وتنتمي الى تيّار مناهضة إسرائيل العروبي منذ نشأة الصحيفة، وتناهض الليبرالية الغربيّة المتوحّشة التي أمعنت في تمزيق الوطن العربيّ منذ احتلال فلسطين حتى غزو العراق وما تلا ذلك من قهرٍ وتمزيق لدول عربية عديدة، لكن الصحيح أيضًا هو أن صفحات الجريدة التي صارت جُزءا من ذاكرة بيروت النضالية، كانت مفتوحة للجميع، وكان فيها تياراتٌ وانتماءاتٌ متنوّعة، وكانت تحافظ على شرعة المهنة وأخلاقِها.
صار طلال سلمان، جزءًا من عائلتي وصرت كذلك جُزءًا من عائلته، وغالبًا ما أزوره مع الزميل والصديق النبيل والوفيّ حسين أيوب، لكنّي في الزيارات الأخيرة، كنتُ كُلّما صعدتُ الى مكتبه الجديد والأنيق والمزّين برسومات ناجي العلي وقصائد محمود درويش وكتابات غسّان كنفاني، أشعرُ ببعض الغصّة، ليس لأن “السفير” توقّفت عن الصدور فحسب، وإنّما لانّ ثمة بردًا احتل مكان حرارة خليّة النحل، فالأصدقاء (أو مدّعو الصداقة) تضاءلوا حتى كادوا يختفون، والسياسّيون الذين صعد بعضُهم على صهوة “السفير”، ما عادوا يهتّمون، ولم يبق غير بعضِ الأوفياء الحقيقيّين والمحبّين الحقيقيّين يأتون لاستعادة حنين ذاك التاريخٍ المُشرق من الأمل العربي، متناسين عمدًا أحوالَنا العربيّة الراهنة.
كنتُ كلّما زرتُ طلال سلمان في الأشهر الماضية، التقط لنا معه صورًا كثيرة، ونحثّه على أن يحكي لنا قصصًا من ذاكرته العربيّة، فتلمع عيناه عِشقًا وحنينًا، ويستفيض بشرح النقاشات الأولى في البرلمان الجزائري والتي حضرها بنفسه، فكان يضحك حين يتذكّر أن احد تلك النقاشات تمحوّر حول هل يتمّ تخصّيص ميزانية لشراء بزّة ثانية للرئيس أحمد بن بلا أم لا. ويروي لنا ذكريات عن الزعيم جمال عبد الناصر، وعن اللقاءات الماراثونية مع حافظ الأسد، وعن الحوارات الطويلة مع العقيد معمّر القذّافي، وعن دراسته في المختارة وتعرّفه على زعيم الحركة الوطنية كمال جُنبلاط، وعن اللقاءات في الملاجئ مع الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات والقيادات الفلسطينية في بيروت قبل الاجتياح الإسرائيلي…..
كنتُ احاولُ أن احفظ كلّ ذلك عن ظهر قلب، لأني أعرفُ أن هذه الذاكرة العربية، العروبية، الفريدة قد تتوقّف يومًا ما كما كلُّ شيء جميل في هذا العالم.
سألتُ عن طلال سلمان قبل أيام قليلة بغية زيارته، فقيل لي إنه في العناية الفائقة في المُستشفى. كان يرقد هُناك بينما يتم توزيع الأوسمة على زملاء إعلاميين (معظمهم يستحقّ بجدارة) ومثقّفين وفنّانين في رئاسة الجمهورية قبل نهاية عهد الرئيس ميشال عون….
لا بأس، فمثل طلال سلمان، يُكرِّم الوسام وليس العكس. شفاك الله يا أبا أحمد وعافاك، فما زالت لديك مئات القصص ترويها لنا عن زمنٍ عربيّ ربما لم يكن مُشرِقًا كما تمنيتَه ونتمناه، لكن في حديثك عنه يصبح أجمل وأبهى وأصدق.
سامي كليب