أيّ عصر عربي عرف الصحافي العربي الكبير طلال سلمان، حتى بات يشعر اليوم بأن حياته كانت كذبة؟
في أيلول/ سبتمبر 1961، حصل الانفصال بين مصر وسوريا. كان طلال سلمان قد انتقل إلى مجلة “الأحد”… ومنها إلى السجن. حادثة مفصلية حفرت عميقاً في ذاكرة الصحافي الشاب، الذي سجن ظلماً. كانت التهمة التي وجّهت إليه مساعدة مندوب الثورة الجزائرية في لبنان أحمد الصغير جابر. “كان شاباً لطيفاً، استطاع أن يخترق كل الصفوف السياسية والصحافية في البلد، ويقيم علاقة ودية مع الجميع حتى المعارضين للثورة. ونتيجة تردّده المستمر على المجلة والحديث المتواصل عن الثورة وأبطالها، صرنا صديقين”.
في أحد الأيام، طلب منه جابر أن يحتفظ له بحقيبة في منزله لأنه يريد الإقامة خارج بيروت بسبب وضعه الصحي. وافق سلمان على الاحتفاظ بحقيبة وآلة للطباعة، سئل عنهما بعد نحو ثلاثة أيام من قبل ثلاثة رجال قرعوا بابه فجراً واصطحبوه إلى المديرية العامة للأمن العام، وخضع لتحقيق قاس عن علاقته بجابر. “متى تعرفت عليه؟ كم يدفع لك شهرياً؟ ما هي الوثائق التي أعطاك إياها؟ ما هي الوثائق اللي هرّبتها؟ إلخ.” لم يكن لدى سلمان ما يخفيه، رغم ذلك بقي موقوفاً نحو تسعة أيام في نظارة الأمن العام. في اليوم التاسع، نقل إلى المحكمة العسكرية، والتقى هناك بالنقابي فؤاد ناصر الدين الذي أخبره عما سيتعرّض له بالتفصيل وعلّمه كيف يجب أن يتصرّف. بعد 12 يوماً، نقل إلى زنزانة إفرادية في سجن الرمل وأمضى فيها 15 يوماً ثم انتقل إلى “قاووش” يجتمع فيه كل السجناء باختلاف تهمهم. أمضى فيه ستة أيام قبل الحصول على البراءة.
خلال هذه الفترة، حصل أمر كبير لم يكن أقلّ قسوة على الصحافي الشاب من قسوة سجنه مظلوماً: إعلان الانفصال بين مصر وسوريا. “سمعنا الخبر بالتواتر. كان يوماً حزيناً جداً. نسيت همي الشخصي ورحت أفكر بأحلامي. حلمي بأن هذا الوطن سيتوحد. سنصبح أمة هائلة. سوف ننتصر على اسرائيل. جاء الانفصال وكأنه ضربة على الرأس. اكتملت المأساة. مأساتك الشخصية توّجت بالمأساة العامة. كانت أشد عليّ من سجني. إذا انضرب حلمك الأكبر، الأعظم، الأسمى، ما هي قيمة سجنك. هناك كارثة كبرى حلّت وسوف تغيّر لك تاريخك كله. بكيت. بكيت بكاء حقيقياً، مرّاً. بكيت عمري بكيت أحلامي وأحلام جيلي. بكيت مرارة الواقع الذي لا نعرفه كفاية ولا نفهمه كفاية ولسنا مستعدين له كفاية”.
لكنّ بكاء حارّاً من نوع آخر سيجد طريقه إلى عيني سلمان بعد وقت قصير نسبياً.
استقلال الجزائر
في تموز/ يوليو 1962، أعلن استقلال الجزائر التي حكمها الاستعمار الفرنسي 132 عاماً. كان طلال سلمان يستعدّ للسفر إلى الكويت للعمل فيها: “كان يجب أن أكون في الكويت في شهر تشرين الأول/ اكتوبر، وكانت الجزائر تعدّ لانتخاب أوّل رئيس وأوّل مجلس نواب لها في شهر أيلول/ سبتمبر. لذا اشترطت أن أزور الجزائر قبل الالتحاق بعملي وهكذا كان”.
كانت الجزائر مالئة الكون يومها “يعني هناك نضالها الطويل على مدى 130 سنة، وصولاً إلى حرب الاستقلال التي خاض خلالها الشعب الجزائري مقاومة جدية ابتداء من العام 1954 حتى العام 1960. كانت تحظى بحملة تضامن واسعة في كلّ الدول العربية على مستوى الشعوب، وكان جمال عبد الناصر يدعمها بثقله، سلاح وإذاعة صوت العرب وعلاقات دولية. إلى المدّ القومي العربي، تضامن العديد من دول آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية معها، وطبعاً هناك مليون شهيد، فكانت النتيجة خضوع فرنسا للعقل والمنطق واتخاذ القرار بالجلاء عن الجزائر”.
ذهب سلمان إلى الجزائر عن طريق باريس، فأمضى بضعة أيام في العاصمة الفرنسية بضيافة أحد أبناء بلدته محمد الصليبي. “كان شهر أيلول والطقس بارد هناك فيما كنت أرتدي ثياباً خفيفة. ذهبنا لشراء معطف من أحد المحلات. بعدما فتشنا بين البضاعة، واخترنا ما نريده، توجهنا إلى صاحب المحل الذي وضع المعطف جانباً وقال لنا: non merci je ne vend plus (لا أريد البيع)”. سكت سلمان، فيما دخل صديقه في نقاش حاد معه، إلى أن قالت زوجته “اتركاه وتعالا لعندي. هو يعتقد أنكما جزائريين”. فردّ عليها زوجها: “لا… ناصر ناصر ناصر”. قال سلمان لصديقه: “فلنخرج، لا أريد أن أشتري”. خرجا من المحل “وكنت أشعر بأني أطول من برج إيفل. لا يريد أن يبيعني المعطف نكاية بعبد الناصر. إلى هذا الحد كان يغيظهم”.
في الطائرة من باريس إلى الجزائر، جلس إلى جانبه شاب جزائري، يتحدّث بخليط فرنسي ـ عربي ويكرّر كلمة الديموقراطية، ويشكو افتقار الجزائر إليها. كان لسان حال سلمان: “طيب انتظر ولادة الدولة قليلاً”. لكن عند الوصول إلى سماء الجزائر، بدأ الجزائري يبكي لرؤية البحر، ولم يعرف كيف ينزل الدرج، وعندما وصل إلى الأرض صار يرفع التراب ويقبّله.
مع بوحيرد وبن بلة
في الجزائر، حضر سلمان افتتاح أول برلمان في تاريخ الجزائر بعد الاستقلال، وانتخاب رئيسها الأول. “وقفنا في الخارج نراقب النواب. كان مشهداً لا مثيل له في التاريخ. كلّهم تقريباً كانوا مصابين. منهم من قدم مستعيناً بالعكازات، منهم من كان بلا قدم، بلا قدمين، من دون عين، من دون يد. مناضلون وثوّار، نادر بينهم من كان سليماً”. عندما افتتحت الجلسة “كان الجميع يبكي تقريباً. أتذكر أننا لمحنا المناضلة جميلة بو حيرد التي كانت رمزاً كبيراً لنا. هربت منا وكانت تضع نظارات سوداء على عينيها. اقترب منها صدّيق شنشل (زعيم عراقي التقى به سلمان في الجزائر)، باعتباره أكبرنا سناً وقال لها: يا بنيتي، أنا زيّ والدك، زيّ عمك، اسمحي لي فقط أن أقبّل يدك. فأجابته: أنا لست جميلة يا عمّ. لست جميلة”.
بدأت الجلسة بانتخاب هيئة المكتب، ورئيس المجلس، وبعدها رئيس الجمهورية أحمد بن بلّة. يذكر سلمان موقفاً يكرّره حرفياً: “وقف أحد من النواب وقال تواخزونيش خويا ترى ما ندرش العربية (لا نحكي العربية)، ندرش جزايري (نحكي جزائري)، لْ حين سي أحمد بن بلة هو البريزدان (الرئيس)، ونحن نعرف أحمد بن بلة واللهي ما عندوش إلا كسوة واحدة وأنا عندي واحد suggestion، فشرح زميل إنّ لديه اقتراح. تابع الأول، عندي اقتراح نصرفو لـ سي احمد بن بلة ثمن كسوتين (بدلتين)، وبالفعل صوّت مجلس النواب الجزائري على صرف ثمن بدلتين لأحمد بن بلة. طبعاً أنا شخصياً غرقت في البكاء. كلّ شيء كان مؤثراً. شيء تاريخي. شيء لا تراه إلا مرة واحدة في حياتك”.
بعد يومين أو ثلاثة، استطاع طلال سلمان لقاء أحمد بن بلّة “لكنها كانت مقابلة سريعة، كان الحديث خليطاً بين العربية والفرنسية وكانت عربيته ضعيفة جداً، تحسّنت لاحقاً، خلال سجنه أعتقد. حفظ القرآن كلّه وقتها”. والتقى هناك أيضاً هواري بومدين. كما طلب زيارة المناطق التي يعيش فيها البربر، فتوجه إلى مدينة تيزي أوزو، حيث وجد صعوبة في التفاهم مع أهلها بالعربية “أمضيت ليلة عجزت فيها عن إقامة حوار جدي معهم لذا لم أكوّن أكثر من انطباعات في هذه الزيارة”.
(الحلقة الثالثة من هذه السلسلة الجمعة بتاريخ 18 تشرين الأول/أكتوبر بعنوان: طلال سلمان يحتفل في الجزائر: “آكو” ثورة في اليمن)
تنشر بالتزامن مع موقع 180