1- غرافيتي على حائط أزمنة مخالِفة
“كتابةٌ على جدار الصحافة”: آخرُ مرفأٍ حطَّ فيه قلم طلال سلمان المُبحر منذ أكثر من نصف قرن في لجج الصحافة اللبنانية العربية، وفي بعض روافدها الأدبية المشتقَّة، والخارج أغلبُه من ورق الجريدة اليومية ، إلى ورقٍ أصغر مساحةً منضغطٍ بين دفَّتَي كتاب. هذه العادة معروفة لديه ولدى كثر غيره، وممارَسةٌ مرات. خلاصتُها، غيرُ المعلَنة، هي الوثوقُ الشائع بسرعةِ زوالِ آثار الجريدة، وانقطاعُ جريان يوميَّتها لدى القراء، ومعطوبيةُ ورقِها الحاملِ رسالةً عابرةً “يُعدمها” عددُها التالي كلَّ يوم.
ولكن هذا “الكتاب” بالذات، الآخِرَ في لائحة كتبه، ومن غير أن يبقى طويلاً، على الأرجح وبالضرورة، الأخيرَ، ينطوي مع ذلك على استثنائيةٍ تندرج في حيِّز التأريخ الشخصي، بإصراره على القولِ فيه ما سبقَ له أن قاله مراراً مبعثرةً في الجريدة. فها هو الشاب السبعيني اليوم يوقظ، مرةً أخرى، آلامَ الفتى العشريني الذي كانه، على غرار ما فعلَ غوتِه بـ”آلام الفتى فيرتر”، بكرِ العائلة الفقيرة المتنقلة في المناطق اللبنانية على إيقاع تبدُّل مركز عمل الوالد “الدرَكي”، والذي دفعَه فقرُ الوالد إلى “طرْده” من العائلة، حرصًا على معيشة إخوته القاصرين، كي يتدبَّر حياتَه في الصحافة “برأسمالٍ” قدرُه أربعون ليرة! ويستعيد حكاياتٍ/ ذكريات أخرى حول السياسة، والالتزام السياسي، والتقدُّم المهني… وصولاً الى تأسيس جريدة “السفير” ورئاسته تحريرها. كلُّ ذلك جمَعَه هذا الكتاب من مقالاتٍ متفرقة، وقام “بتوليفها” للذين فاتَتهم ربما قراءتُها، قليلها أو عديدها، والذين لا يرون للجريدة حياةً تتجاوز يومَها قبل أن يؤول ورقُها العريض إلى مهماتٍ عدة في التوضيب… أو لوثوقهم، كما وثوقه، بأن الكتاب متحفٌ أكثرُ ديمومةً وبقاءً… وإحاطة!
زمنُ صدور الكتاب ينأى عن زمن مضمونه، ويتنافر معه. الزمن العام، كما الزمن الخاص،النفسي. وفيه خوفٌ من الزمن الآتي القريب، لا على “السفير” وحدها، بل على الصحافة ذات التوجُّه الوطني والقومي والتقدُّمي، إذ “لم يعد، كما قال، بإمكان المؤسسات الصحافية، في لبنان تحديداً وفي أقطار عربية فقيرة عدَّة، أن تحتفظ بكادراتها المهنية المميزة في إنتاجها، والواعدة…”. ويخاف من “الارتهان لنفوذ أصحاب المال”، ومنافسة الفضائيات العربية… ثمة توجُّس من انزلاق لم يكن في الحسبان!
ويصل إلى ذروة خوفه غير المسبوق منه، بقوله: “الصحافة في لبنان تعيش اليوم قلقاً على وجودها ومصيرها، يتجاوز القلق على حريّتها”. (راجع، السفير، “هوامش”، 11 – 5 – 2012، في كلمةٍ ألقاها في قصر الأونيسكو في بيروت بمناسبة “يوم الصحافة العالمي”). إنها إذن “كتابةٌ”، تضمر نفحةً من خطبة وداع غير داهم لحينه، كتابة مغلَّفة هذه المرة في كتاب، تحت وطأة “قلقٍ على الوجود والمصير” لا يستشعره أحدٌ بالعمق أكثر منه. هذا “الغرافيتي” على حائط الصحافة لم يجد له راحةً كافية مستدامة “داخل” الصحيفة. لقد استظهر كوامنَه على “خارجٍ” عموميّ لا حصريةَ لمِلكيَّته. هو جريدةٌ مجَّانية للقارئ والكاتب معاً، يتملَّص بها الكاتب من كثيرٍ من التزاماته البروتوكولية ليستمتع بحرية بوحِ شجنٍ من نوع آخر لم يتسنَّ له فيها افشاءٌ صريح، في أزمنتها السحيقة تلك، والأقل سحقاً! القلقُ الدائم لازَمَ فعلاً كل مسيرة “السفير” التي تدثَّرت، منذ نشأتها، بلاءات كبرى، عروبية وتقدُّمية، جعلتها غيرَ قابلةٍ للصرف في كثير من البلاطات العربية، ومقبولةً، ليس دومًا بكاملها، على مضضٍ في غيرها. وكان ثمة خوفٌ دائم من ألاَّ تقوى الخيمةُ اللبنانية على وقايتها وحمايتها وضمِّها براحةٍ إلى فسيفسائها الصحافيّ الباهرِ الألوان لحدِّ مجافاةِ الوقائع العربية واستفزازِها.
1- صحيفة مَن لا صوت لهم
ها هي “السفير” اليوم تدخل عامها الأربعين بقيادته غير المستريحة. انطلقت محدِّدةً هوّيتها السياسية “بالعمل الوطني التقدُّمي بأفقه القومي العربي” (هوامش، 12/3/2010)، ومعلنةً طموحها بأن تكون “صوت لبنان في الوطن العربي، وصوت الوطن العربي في لبنان”، ومعيِّنةً جمهورها أيضًا بأنَّهم أولئك “الذين لا صوت لهم”، واعِدةً بأن تكون هي صوتَهم! هذه “المغامرة الفردية”، كما وصفَها، التي لا تزال تحبو “بفرح النجاح” الذي يعود حصراً، في إنجازه وفي استمراره، وعلى المستوى الفردي، لطلال سلمان قبل أيَّ فردٍ آخر، بما تميَّز به أوَّلاً من قلمٍ فذٍّ لا مجال لقيادةِ صحيفةٍ ناجحةٍ من دون “سلطته” غيرِ المشكوك فيها، ومن روحٍ مغامِرةٍ تستبطن شجاعةً مشفوعةً بمجموعة ميزاتٍ ومواهب على رأسها حُسنُ الإدارة والمثابرة المضنية… تعطيها الثقافةُ الطامحة دومًا للاستزادة والتوسُّع، والذاكرةُ الحيَّةُ، أبعاداً إضافية ضرورية.
إلا أن “السفير” تدين أيضاً وخصوصاً، بنشأتها، كما باستمرارها وتقدُّمها، إلى البيئة الثقافية الاجتماعية والسياسية الحاضنة. هذه “المغامرة الفردية” الصحافية لم تكن ممكنة، في دنيا العرب، إلاّ في لبنان. فهي في الأصل، وبحسب التصنيف الدولي، مؤسسةٌ غيرُ حكومية. وهي في المواقف، مؤسسةٌ ضد حكومية. وتنتمي كلياً إلى القطاع الإعلامي الخاص، هذه السمة التي لم يكن يوفِّرها في العالم العربي الواسع سوى لبنان! فقد “كانت بيروت عاصمة الحرية وحقِّ الاختلاف”، كما قال. ويضيف: “كانت بيروت المنتدى الفكري والشارع الوطني والمشفى والمقهى والمطبعة والجريدة والكتاب” (هوامش، 23/4/2010). هذه البيئة اللبنانية العريقة بالحرّيات العامة، والتي نالت دائمًا تقريظًا واسعاً من أوساط ثقافية عربية مختلفة، ليست بحقيقتها منَّةً من السلطات السياسية اللبنانية المتعاقبة، بل إنَّ هذه السلطات، على تعدُّدها وتنوُع خياراتها على مدى تاريخنا الحديث، لم تنِ تعمل على إزعاجها وتسعى إلى خنقها وتضييق آفاقها، وبإزاء مقاومةٍ لافتة من جانب المجتمع المدني الذي لم يقم بتقديم أيّ تنازلٍ في مجال هذه الحريات العامة المكتسبة والمتوسِّعة باستمرار، التي باتت جزءًا من تراثه المعيش والتي كان التنوعُ المجتمعي في لبنان يرفد ساحَه الدينامية من غير توقُّف بقوى ممانعة.
2- في غواية “الحرب” ودربتها
لقد تزامنَت انطلاقةُ “السفير”، ومسيرةُ صباها وشبابُها بكاملها، مع الحروب اللبنانية المركّبة التي سُمِّيت اختزالاً “بالحرب الأهلية” (1975 – 1990)، وكانت هي طرفاً صحافيًّا فيها إلى جانب، وبمقابل، العديد من لاعبيها المحليّين والإقليميين والدوليين. وتعرَّضت، بسبب مواقفِها، للتعطيل والتغريم وعرقلة التوزيع وترهيب المعلنين فيها… وصولاً إلى التفجير ومحاولات الاغتيال لعاملين فيها، نجحت مع البعض وفشلت مع البعض الآخر، ومن بين هؤلاء، وعلى رأسهم، صاحبُها… ولكنَّها صمدت بصمود قيادتها ومهارتِها، يقول البعض، وليس من غير رغبةٍ مكتومةٍ في الاتهام والتشفِّي أو غيرةً وحسداً، في السير دهرًا طويلاً بين نقاط السلطات السياسية الرسمية وغيرها، تلك المقتدرةِ وصاحبةِ اليد الطولى منها، على الخصوص !
و”السفير” نضجت أيضاً، خبرةً وعراكاً، وباتت أبرعَ احترافًا وأكثر قدرةً تاليًا على تمييز الخصوم والأعداء والأصدقاء، لبنانياً وعربياً. واكتسبت، من معترك المنافسة الصحافية على الأرض اللبنانية، الكثيرَ من التقاليد والقيم الصحافية الليبرالية الدولية وأساليبها العريقة التي لم تكن “السفير” تكترث كثيرًا بها من قبل. فعلى الرغم من المجموعة المميَّزة من الصحافيين الذين استقطبتهم، بعضُهم غادرَها وبعضُهم لا يزال فيها، والذين عزَّزوا، ولا يزالون، على مدى سنين، انطلاقاً منها، المستوى الرفيع في الكتابة الصحافية العربية الحديثة، منهم شعراء وروائيون ونقَّاد ومحللون وعلماء اجتماع واقتصاد وسياسة، يساريون وقوميُّون وتقدُّميون، ومفكِّرون إسلاميُّون وعلمانيُّون، قبل أن تجبرهم ظروفٌ إكسترا لبنانية وعربية لاحقة على ضرورة التمييز المنهجي بين هذه المواصفات، أو هذه الهويات الخاصة، السياسية أوّلاً… وقد باتت بهم واحدةً من طليعة الصحف اللبنانية؛ فهي حريصةً على هذه الهوّية الطليعية وتشبُّثًا بأهدابها المبعثرة، لم تقوَ على تخليص صفحاتها، كلِّ صفحاتها، إلاَّ ببطءٍ طال أمدُه، من إغواءات خروقات أساليب المنشورات الحزبيَّة التعبوية والتحريضية الشائعة التي كانت تضخِّم صوتها عمومًا(متوهِّمةً بذلك تضخيم صوت مَن تنطق باسمهم، وهؤلاء أيضًا لا صوتَ، برأيها، لهم!) بإطلاق كمٍّ من التهديدات والاتهامات والوعيد والهزء، حتى الشتائم المخفَّفة، التي كانت تتجاور أحيانًا كثيرةً مع مقالاتها المميَّزة! وعلَّةُ ذلك كونُ جماهير “الذين لا صوت لهم” متنازَعٌ عليها أيضًا مع تلك الأحزاب التي تربَّت طويلاً، وعوَّدت آذانَها والآذانَ العربية، على تلك النبرات السمعية، قبل البصرية القرائية. وقد ذكَّرَنا الباحثُ الأكاديمي الإعلاميُّ اللبناني باسكال مونان، في مناسبةٍ تكريميةٍ مخصوصةٍ لجريدة “السفير”، في “الحركة الثقافية-إنطلياس”، وبحضور طلال سلمان، أنَّ هذا الأسلوب “المنشوري”، غيرَ المحترف و”غيرَ الصحافي”، تسلَّل أحياناً إلى مانشيت الجريدة في عنوان: “إعدام السادات”، وذلك غداة “اغتيال” الرئيس السادات! ويبدو أنَّ التزام طلال القوميَّ هو من القوة ما يُعطي سبقًا مطلقاً للعاطفة الجيّاشة لشاعرٍ، على كل أمثولات الاحتراف الصحافي الذي ينبغي أن يكون أكثر حدَّةً عند رؤساء التحرير منه لدى القرَّاء، وحتَّى المحرِّرين! ألمْ يعترف هو نفسُه، وإنْ بعد حينٍ، وليس من غير ندم، بتورُّطه سابقًا في “زلَّةٍ” احترافية مشابهة، غداة هزيمة 1967، في غير “السفير” وقبلها، في مانشيت مجلَّة “الحرّية”: “لا، لم ينهزم عبد الناصر”؟
3- المشروع الأكبر وشحذُ التنبُّه إلى وقائع غير جديدة
أجل، لقد نضجت “السفير” التي تماهى بها صاحبُها مذ سن الخامسة والثلاثين وللساعة، وقد بات اليوم كهلاً (والتعبير هو له، قاله واصفاً به حاله في حبِّه الدائمِ النضرة لرفيقة عمره) في منتصف العقد الثامن. ونضج هو أيضًا بالموازاة، وحتى بالنسَب الصوفيِّ الذي يُعجَز معه عن تمييز العاشق من المعشوق! كان لا بدَّ، كما يقول، من إعادة صوغ العروبة وتجديد الفكر القومي، في إطار تحوُّلات فاجأت المتَّكئين، براحةٍ واثقةٍ متفائلة، على تصوُّرات شتى من الحتميِّات التاريخية. وبات أكثرَ تنبُّهًا لِما للبنان من خصوصياتٍ مرذولةٍ وغيرِ مقبولةٍ إلاَّ على مضضٍ مستدامٍ للساعة، وما يوفره من حرِّيات عامة تشيح بثقل السلطة السياسية وحرَّاسِها عن الكواهل العامَّة، ومن حظوظٍ بالتالي في هذه الإعادة الضرورية. لقد خرج مُنَح الصلح قبله، الذي يُذكَر هنا على سبيل المثال (المثال الذي يرتاح له)، بعد الخبرة الطويلة المريرة والثرَّة في هذا المجال، بمقولة: “اللبنانيَّةُ الصعبة”، وبمفاهيمَ جديدةٍ حينذاك حول خصوصية العروبة في لبنان المتعدد وحرِّياته ، وخصوصية لبنان في العروبة، وخرج… من ضبابيات التعميم. ومع هذه “التفهُّمات”، ولباقةِ التعامل معها، “تلبْنَنَت” “السفير”، فزادت مساحةَ العروبة التقليدية في لبنان! ولا يُعرف بالضبط ما الذي خسرتْه بالمقابل، والأرجح بالموازاة؟ أو أنها جاءت أصلاً من تراجعاتٍ وهزائم عربيَّة متعاظمة لحينه، على الرغم من الوعود التي زُرعت في هذه الانتفاضات العربية المعدودة، والعظيم مما أنجزتْه فعلاً، إلاّ أنها حصدت مع ذلك الكثير والكبير من الخيبات “القوميّة” منها! فلبنان لم يكن لـ “السفير” موطناً وحسب، بل كان لها خصوصا البلدَ العربيَّ الأوحد الذي لم يُقفل “حدودَه” بوجهها. وما قام به أحيانًا كي يحول دونها ودون جمهورها يمكن إدراجُه، قياساً، في خانةِ ما ليس يُذكَر! ومن هذا “اللبنان” ذاتِه لا يمكن أن يُستثنى الرسميُّ “السلطويُّ” أيضًا، على العموم الباقي لا على الخصوص العابر؛ ولا استثناء “خصومِها” الذين طالت يدُهم حيناً وامضًا وزائلاً؛ ولا “أعدائها” الذين يصعب تمييزُهم وتعيينُهم بدقَّة وتحديدُ مواقعِهم، وربَّما “تعاملت” “السفيرُ” معهم، بخاصةٍ “السلطويين” الأشاوس منهم، درءًا لخطرهم القابع والمتخفِّي، بأسلوب إغضاء العارف الذي ما من ممارسته، للاستمرار، بدُّ! ولكنْ طلال، كوطنيٍّ قوميٍّ تقدُّميٍّ صلب، لم يُشح باقتناعِه عن كون التخلُّف متجسداً جوهرًا في لبنان الرسمي الطوائفي، غيرِ المدني(أو غيرِ العلماني، هذه العبارة “القديمة” التي لا تزال ألسِنةُ بعضِ قدامى اليساريين والليبراليين والقوميين “ملويَّةً” على التلفُّظ بها: قلَّة منهم في العلن، أو بمرادفاتها “المدنيَّة” وغالبيتهم في الخفاء وفي الأماكن المقفلة بين الموثوقِ منهم من القدامى!). ولا بدَّ تاليًا، في معتقَده، من “تخليص الدولة اللبنانية من براثن الطبقة السياسية الطوائفية وممثليها أمراء الطوائف”، ومن هذا “النظام الفاسد المفسِد”.
أمَّا فلسطين، الجرحُ العربي الذي لا يندمل، فظلِّت عنده بوصلةَ السياسة العربية الكبرى والمعيارَ الأساس الذي يقاس عليه كلُّ عملٍ وطنيّ وقوميّ عربي. فهي حاضرة ومقدَّمةٌ في كل عددٍ من جريدته اليوميّة. وثمة فيها، أَيضًا، ملحقٌ دوريّ خاص بفلسطين، بتاريخها الحديث خصوصًا، عن مدنها وقراها وناسها وإنجازاتهم؛ وله هو في كل إصدار منه مقالٌ افتتاحيٌّ. وفيه ترصُّدٌ على مدار الساعة لواقع احتلالها وتعقُّب حركات محتلِّها، عدوِّها الأول وعدوِّنا. تلك المواقف الإعلامية الفلسطينية كانت دومًا، ولا تزال، سمةَ “السفير” اللافتة والمميِّزة لها في أوساط الصحافة العربية الناجحة.
لم يغوِه كثيرًا التنظيرُ للفروقات العقدية، بين جبهات العروبيِّين خصوصاً. وغالباً ما يقارب هذه التباعدات بأسلوبٍ ساخر، أو من غير توقُّف أو اكتراث بتفاصيله. فهو، في الأصل، لا يستسيغ كثيرًا المجادلات الأيديولوجية الصرف. ونادراً ما تستوقفه المفاهيم المحمولة على بعض الألفاظ المفاتيح في الشعارات السياسية. وبالمقابل العملي لذلك، فملايين العرب ممَّن “لا صوتَ لهم” و”لا حرف لهم”، والذين وعدت “السفير” بأن تكون هي صوتَهم وحرفَهم، لم يعرفوا بالحقيقة بوجودها أصلاً، ولا مكان لها في حياتهم البائسة والمهمَّشة من السلطات المتسلِّطة وطبقاتِها العائمة على بحور من الدولارات، التي تدّعي شرعيَّةَ احتكارهم بنسبة 99،99 بالمئة فقط! وتقف الأمِّيةُ العربيَّة الواسعة، أو الألفبائية المدرسية الأوَّلية، المتجددة بعد كل جيل، والحدودُ الجغرافية، وضيقُ الحال واليد، والموانعُ السلطويَّة المختلفة… حائلاً بينها وبينهم، لتجعل الشعار الجذَّاب للجريدة يافطةً “شِعريَّةً” بامتياز! ناهيك بأنَّ هذه الجماهير “الغفورة” “صحَت” على غيرِ صوت “السفير”، وباتت اليوم تتوزَّعَها أكثرَ فأكثر قوىً عديدة ، ومحطاتٌ فضائية تُضاف، هي بدورها، إلى الوسائل الإذاعية السمعية الطربية الفائقة الشيوع قبيل انطلاقة هذه الجريدة بخاصة (مَن لا يزال يتذكَّر اليوم “ثورة” الترانزستر تلك، وإذاعة “صوت العرب”، أي “العرب” الذين لهم صوتٌ لا شك في سماعه، مسموعٌ لا مقروء؟)، ووسائل التواصل الراهنة… لا نسَبَ لها كلِّها بالقراءة عمومًا، ولا حتَّى بالقيَم التي دأبت “السفير” على نشرها! وهذا ما جعل سلمان يقول بمرارة: “العروبة ليست موضة موسم… ولا الوطنية وجه مستعار تلبسه للتقية مرةً، أو للتباهي مرة أخرى” (هوامش، 12/3/2010).
لقد استقطبت “السفير” أقلاماً فذَّة، متنوعةَ المنابت والاتجاهات التقدُّمية اللاحقة، وسَّعت آفاقَها. “استوطنَها” بعضُهم ردحاً طويلاً، وبعضهم الآخر عبَرَ منها إلى ضفافٍ أخرى… ومنهم مَن لا تُعرف مواقفُهم آناً حيالَها. وكان لها دوماً أعداءٌ حقيقيُّون بسبب تحالفاتها وخصوماتها مع سلطاتٍ، عربية خصوصاً. وها هي تقف اليوم، بقيادة رئيس تحريرها الدائم، في انحيازٍ تام لقوى العروبة ضد حركات ومنظَّمات وأحزاب الإسلام السياسي، متخذةً من النموذج المصري الراهن دلالةً على رهاناتها العربية والعامة. في مؤتمرٍ حول موضوع المسيحيين العرب والإعلام، عُقد في بيروت، قال سلمان: “إن العروبة تعني تقدُّم شعوب هذه المنطقة بأكثريتها الإسلامية نحو عصر الدولة المدنية التي لم يعرفوها لا في ظل الخلافة، ولا في ظل السلطنة ]العثمانية[ رافعةِ الشعار الاسلامي” (1/2/2013). فالعروبة هي عنده لاغية للتمييز الديني والمذهبي والطائفي الذي تحاول فرْضه على شعوب المنطقة بالقوة حركاتُ الاسلام السياسي. ولا يرى سلمان في هذا الموقف جديدًا مغايرًا لما كانت عليه “السفير” دوماً! أما قلقه اليوم على الصحافة، وعلى “السفير” ضمناً وتحديدًا، فلا علاقة له برأيه بهذا الموقف السياسي الراهن. فأسبابه مختلفة تماماً.
4- الحلم وأرديتُه
حالمٌ طلال سلمان. حلمُ شاعرٍ لم يرغب من الشاعرية سوى في الاكتفاء بالمزاولة، من غير التسمية. وبمفارقةٍ صادمة، قد يكون ذلك إحدى علامات القوة في شخصيَّته، وأكثرَها تحبُّباً أيضاً. وله في الأحلام مقاماتٌ وطقوس تُكرِهه على ألاَّ يسيء إلى ظروفها أو يتخلَّف عن مناسباتها. فأحلامه المحبَطة لا يسعها الانفلات إلاَّ ضمنها، درءًا لأيِّ التباسٍ وتداخُل تأباهما، بمفارقة مدهشة، براغماتيَّته اللافتة! فهذا الكاتب الذي لم تُعرف له مهنةٌ غير الصحافة، هو أديب شاعر استتبع للصحافة السياسية استراحاتٍ صحافية، أسبوعية في الغالب، إكسترا سياسية هي، بمعنىً ما، أفعالُ عشقٍ للصحافة، تعضدها وتنأى بها من الجفاف المُنفر. ينأى بنفسه إلى الأصقاع الداخلية في صحيفته، مرةً بـ”تهويمات” لا موضوع محددًا سلفًا لها، وبأقصوصاتٍ روائية مرةً، أو بقراءة سريعة لكتابٍ أُهدي له، أو برثاء صديق واستعادته ضاجاً بالحياة. فما غاب صديقٌ ولم يكتب عنه. وأغلب أترابه نالوا حصةً من قلمه وهم أحياء، إلى حدٍّ يُسمَح معه اعتبارُه صاحبَ أكبر موسوعةِ أعلامٍ لبنانية في الثقافة والسياسة والاجتماع، حتى في المودَّة والجيرة، على الإطلاق! أو بخطابٍ ألقاه في مناسبة ثقافية عامة… متَّخذاً له في هذه الاستراحة الأسبوعية رفيقاً مستدامًا اسمُه “نسمة” “الذي لم تُعرف له مهنةٌ غير الحب”، والذي يبثُّ له دوماً حكمةً عن الحب في سطرين أو أكثر قليلاً، مختتماً بها دومًا مقالتَه الطويلة. وأغلبُ الظن أنَّ “نسمة” (باسمه المؤنَّث هذا، الذي ينبغي دومًا التلفُّظ به بالهاء الساكنة لا بالتاء المربوطة والمحرَّكة، والذي يذكِّر فعلُ قولِه في الحب، بفعلِ “النِسمة في ليالي الصيف”، كما تقول أغنية محمَّد عبد الوهاب!) لا يحلو له الكلام غالب الظن إلاَّ حينما يقف طلال أمام المرآة! هذه الجعبة من المواقف الأدبية الأسبوعية، التي لا يتخلَّف عن أيِّ موعدٍ له معها، أعطاها عنواناً مربكاً هو “هوامش”! ولك من الحصافة في ترصُّد الإشارات والتنبيهات ما يرجِّح عندك أنَّ هذه “الهوامش” هي فعلاً المتن! المواقفُ السياسية غالباً ما تكون “واجباتٍ” في الكتابة الصحافية تذبل مع انقضاء الحدث العابر الذي سوَّغ مقاربتَها. وهذا ما يفسِّر، بظنِّي، إصرارَ طلال على تدوين “هوامشه” باستمرار، وعلى حفظها بآخر المطاف في كتاب. وإذ لا جلَدَ لقارئ الجريدة، كما هو معروف، على هذه “الفروض المدرسية” اليومية، فتكون الحقيقةُ هي أنَّ المقالةَ الصحافية التي لا يومَ لها، لا غدَ لها. وبذلك يغدو الكتاب متحفَها الباقي، كاملةً غيرَ منقوصة. ولكنك، مع ذلك، تظلُّ تحار أين يكون بالضبط “نسمة” عندما يكون طلال منكبًّا على كتابة مقاله السياسي؟
الحالمُ الشاعر، الواثقُ من وقْع قلمِه الذي لا يخونه مرةً، القلمِ الفيَّاض الذي لا يملُّ معاقرةَ بياضِ الورق معاقرةً تحسب معها العرب ظاهرةً قلميةً لا صوتية حصرًا، كما أُشيع! فهو قادر، بصوته الرخيم الهادئ الذي تركت همساتُ الحب التي لا ينفك مزاولة بثِّها، آثاراً راسخةً فيه، أن يردَّ الكثيرَ من مياهِ السماعِ الجيِّد والطيِّب إلى مجاريها إذا، وإذا فقط، ما تسنَّى له المذياعُ الحسَّاس، الفائقُ الحساسيةِ والشبيهُ به. هذا نمطٌ من هدوئه الظاهر، الفطري، الذي يُخفي تأجُّجَه كحالمٍ كبير، وعاشقٍ كبيرٍ محبٍّ للحياة: “غبيٌ – يقول – من يُضيع لحظةَ تحليقٍ في أجواء النشوة” (هوامش/ 14/6/2013). لكأنه بهذا القول يستحضر زوربا اليوناني، إنَّما باللسان العربي!
5- بوصلة الحب المضمرة
قال له “نسمة” مرةً: “لولا الحبُّ ما كان الشعر، ولا كان الغناء، ولا كان الرقص…” (20/11/2009). في الدبكة البقاعية يطير طلال عندما تَعقد الكفَّ معه، والكتف على الكتف، والحركة المبتدَعة المضافة منه إلى الإيقاع الجمعي المتماسك …
في أيام “الحرب”، تلك “الحرب”، عندما كنا نعاند نحن لخرق خطوط التماس القاتلة عابرين بيروت المشطورة، كانت زيارته والأصدقاء في “السفير” ركناً منها. ولم نكن نُمسك حتى عن تكليفه، بالإضافة إلى بعض المواقف الإعلامية الخاصَّة بنا، بتبليغ رسالةٍ أو موقفٍ لنا، أو حتَّى أحيانًا بإرسال بيان باسمنا إلى وسائل وهيئات أخرى، غير “السفير”…!
وطلال جرديٌّ في سكنى المدينة وريادته منتدياتها المختلفة، في بيروت وغيرها وفي الخارج الأوسع، حيث ظلت الكثيرُ من طقوس قرية شْمِسْطار البقاعية، مسقط رأسه، ومن بعدها القرى والأحياء التي قطنَها تباعاً مع انتقال العائلة إليها المتتالي على إيقاع انتقال مركز عمل الوالد، ماثلةً في قواعد سلوكه، ملازمة له في حلّه وترحاله. فقد استذكر فضلَ ضيعتِه الضمنيّ في نيله جائزةَ الصحافة العربية، وانتخابِه رجلَ الإعلام العربي لعام 2008، عندما أقامت له ضيعتُه احتفالاً بالمناسبة.
واللافت أيضاً وخصوصاً، بل المدهش، هو حبّه الكبير ووفاؤه لرفيقة عمره، الذي يحلو له إعلانه على الملأ، في “متن هوامشه”، وكأن العمر لا يزال في أوّله! هذا الحب الذي يُظن أنَّه هو الذي خلَق “نسمة” كي لا يكلَّ عن تمجيده وتلاوة آيات الوفاء له! الحب الذي يدين له بما لا يُنسى من تضحياتٍ نادرةِ السخاء بُذِلتْ بشجاعةٍ محفوفةٍ بأعلى درجات الخطر والمجازفة، وامتُحن بها وصمدَ. الحبُّ الذي وفَّر له الشروطَ الفضلى لرؤية عائلةٍ سعيدة تنمو وتتناثر أبناءً وأحفاداً ومنازلَ في حديقةِ محبةٍ عارمة، ولِعَيش عشقِه الأبدي للصحافة مجسَّدةً بـ”السفير”، وتماهيه إلى حدِّ امِّحاء الهوية الشخصية وتداخله الكينوني بها؛ فهو لم يجد له حياةً خاصة لا نسبَ لها بهذه الصحافة بالذات و”هوامشها”، التي حملت، منذ برعمها الأول ، حلمَه الكبير الذي ترعرع معه “في جفن الردى”، والذي لم يجرؤ كثيرون من الصحافيين اللبنانيين المميَّزين على ركوب مغامرته.
هنا، في هذا “المقام” تحديدًا، لا مكان، مثلاً، لقلمه الساخر الجميل الذي يوجِّهه بالعادة على سبيل المداعبة بالكلام، إما لامتعاضه من أمرٍ يحرص على أن يبقى نقده له غيرَ متخلٍّ عن ظُرفه ودومًا دون حدَّ التجريح، أو للتندُّر والهزل الكلامي والمزاح البليغ بمودَّة. يعترف في ذلك بفضل أحد “أساتذته” فيه وهو الأديب الشاعر جورج جرداق الذي بات، كما قال عنه طلال، موضوعَ شبهةٍ خطرة، ومعرَّضًا تاليًا للتصفية والاغتيال، لأنَّه تمادى في استعمال السخرية، وهي “سلاح محرَّم دولياً”، وَخيمُ العاقبة! لقد استخدم طلالٌ نفسُه دائمًا هذا “السلاح”، وفي تقديمه جرداق! وقد تسنَّى لي، في الحركة الثقافية – انطلياس أيضًا، أن أشهد استخدامه له في احتفالين آخرين: عند تقديمه الناقد محمَّد دكروب، والرسَّام التشكيلي موسى طيبا.
6- في ترياق الكهولة
العمر المثقَل لا يني يتحدَّى الذاكرة المرهَقة، ويمتحنها. وهي تخاتل بتوضيبه في “سيرةٍ ذاتية”، أو قُلْ في سيرةٍ “رسميَّة” مُعدَّةٍ للرواية العلنية، هذه المرَّة في كتابٍ جامع، مشذَّبةٍ من الكثير من نتوءاتها المزعجة، هي بالمطاف الأخير عبثٌ بالسيرة العُمْرية، وتبديدٌ لها. لماذا إذاً نستعيد السيرة مرةً أخرى وأخيرة ، بعد مراتٍ غيرها ، في كتاب؟ علمًا أننا نحن لم نكفف عن رواية ذاتنا من غير انقطاع، وبأكثر من لسانٍ ولغة، نسردُها لنا دومًا، ولسوانا أيضاً وأحياناً، نرويها “بالمفرَّق” الآنيِّ الحيّ، الطازجِ لحظتذاك، حدثًا حدثًا، متحررين من ارباكات إتيكيت “السيرة الذاتية” المكتمَلة إلى حدٍ “متحفيٍّ” لا يُطاق!
الكهل العاشق القائل: “لولا الحب لالتهمتْني الشيخوخة”، لا يكفُّ عن إثارة الذاكرة لاسترجاع ذلك “الزمن الجميل” من ماضينا – الذي لم يكن جميلاً، بغالبيَّته وبالتمام، عندما كان حاضراً، بل كنَّا مرارًا نعترض عليه ونلعنُه حتَّى- ولتقريظ القلَّة الناصعة من آخر حرَّاسه الباقين. ويصف حاضرَنا بأنَّه “زمنٌ غادرَه الفرحُ منذ دهر”. ويؤرِّخُ لذيَّاك الفرح القديم الذي تعجز الذاكرةُ المنقِّبةُ نفسُها عن تلمُّس بعضِ ومضاته! أمّا “شابُ الأربعين ليرة” ذاك، فيطلُّ من زمن سحيق، أكثرَ سحقًا، لا قرابةَ له حميمة بالفرح اللاحق المحتفى به! عهدُه سابقٌ لعهد ولادة “السفير”، بل لعهد “حبْس الرمل” وجروحِ إدارة الظهر، ظهرِ الزملاء والرفاق، له! كان عهدَ البداوة الصحافية غيرِ المستقرَّة المتنقِّلة بين “أطناب” الجرائد والمجلاَّت العروبية اللبنانية، الذي هو أيضًا، وللذكرى الغريبة، عهدُ المئات القليلة من الليرات الداخلةِ غالبًا إلى الجيب لا دفعةً واحدة، ومن غير مواقيت ثابتة! لقد نبَّهَنا مرةً أحدُ علماء النفس بأنَّ ذكرى الألم ليست مؤلمة. وغالبًا ما تستدعيها إلى الحاضر حالاتٌ عاطفيةٌ نقيضةٌ لها، وظروفٌ آنيَّةٌ مخالفة! الكهل يستدعي الشاب اليافع، والبحبوحةُ الحاضرةُ الوادعة تستدعي طيف الفقر الغابر، وحسرة الأمس على تفويت الجامعة وحياتِها الثقافيةِ والأكاديمية، وعلى إتقان اللغات الأجنبية الضرورية لاحقًا، لا مماثلة لها في حسرة اليوم عليها، ولا في سجلِّ الحسرات الراهنة التي يفاقمها، أكثر من أيِّ وقتٍ مضى، القلقُ على الصحافة (“الصحيفة”) نفسها! هذا ما يومئ إليه كتاب “كتابة على جدار الصحافة” الحديث العهد والهموم، القديم الروايات والقصص عن الأنا في وضعية وداعٍ ما، لم تكتمل معالمُه بعد، أقلّه عند القراء والمهتمِّين، لا بالضرورة لدى صاحبها المعاني الأول منها.
الصحافيُّ الأديب الشاعر العاشق، الذي نادراً ما خيَّبَ أملَ حاملِ دعوةٍ قُدِّمت له لاعتلاء منبر، العروبيُّ التقدُّمي الكثيرُ الأعداء والخصوم، والوفيرُ الأصدقاء، المحبُّ لبيروت، المفجوعُ دوماً بجرح فلسطين والمهجوس بالرد عليه بمعركةٍ مستدامة انسحب منها عديدٌ من أهلها، المتوثبُ دومًا للتحرير، الجاهزُ أبداً للمقاومة، السجينُ السابق “بتهمة” مناصرة الثورة الجزائرية، المراقَب الملاحَق الذي تعرَّض للاغتيال والتفجير، المنحازُ في النزاعات البَينيّة العربية، والساعي للوئام تحت لواء العروبة الفسيح، الرافضُ للنظام الطائفي والنظام الديني الذي لا صلة له بالدين، الشائب الباقي على العهود الشبابية، كثيرِها… لن تصدِّقَ ناظريك عندما تقرأه يقول بلسان “نسمة”:
“قاصرٌ وغبيٌّ من يقول متذمِّراً: لا أملك وقتاً للحب… إنه يُهين الحب، إذ يعتبره اشغالاً لأوقات الفراغ. أما أنا، فكلُّ وقتي للحب. وما تبقَّى، لكلِّ ما عداه” (كذا) (23/4/2010)!
انطوان سيف
الطريق، 192013