ينفث طلال سلمان دخان سيجارته، ويزفر زفرة حزينة، والدخان بين عينه وعيني ستار.
يقول: أنتم كمصريين لا تعرفون حجم تأثيركم، ربما لا تدركون قيمة بلادكم وخطورة دورها وتأثيرها..!
قبل دقائق من لقائي بالصحفي اللبناني الكبير فى مكتبه بمقر جريدة “السفير” اللبنانية، الأسبوع الماضي، كنت أقطع خطواتي فى شارع الحمراء أشهر شوارع بيروت، مسرعا للحاق بميعاد الأستاذ طلال.. بينما تمر بجواري سيارة مسرعة يصدح منها بصوت عالياً أغنية أوكا وأورتيجا: العب يالا! تمرق الذكريات، تمرُ قفز غزال بين «سلمان» وبينى، ويحكي عن عبد الناصر كأنه لم يحك عنه من قبل، حتى ليكاد يتجسد الرجل بعينيه الزيتونيتين وطوله الفارع وعرضه المهيب وشعره الأشيب وصوته المميز بعد 48 عاما من رحيله. وأسأل نفسي: هل مصر هي عبد الناصر فقط؟ هل انقطع التاريخ بوفاة الرجل كما يعتقد محبوه الأكثر تشددا؟
إذا كان «ناصر» ثمرة ـ أيا كان مذاقها في فم كل منا ـ من ثمار مصر.. فلماذا يعتقد البعض أن مصر هي التي كانت ثمرة من ثمار ناصر؟ وهل الفكرة في الشخص أم الدور أم الخليط نفسه (تكوين البكباشي) مع (اللحظة التاريخية الخاصة) مع الدراما التى نشأت على ضفاف كل هذا أو أنشأها كل هذا؟ أحاول الوصول لإجابة، إذا ما سلمنا بصحة حسابات «طلال سلمان» ومعسكره في مصر والعالم العربي، لعل في الإجابة تكييفاً جديداً لأسباب ما نحن فيه (أيا كان موقفك مما نحن فيه!). يحكى طلال سلمان عن الجماهير التي ذهبت مشيا الى عبد الناصر بامتداد بلاد الشام لتسمع منه مباشرة خطاب الوحدة بين مصر وسوريا.. «جاء الناس بالمواصلات وعلى الحمير ومشيا على الأقدام من كل فج.. فقط كى يشاهدوا عبد الناصر».
يشرح لتساؤلي «المتغابي» سر ظاهرة عبد الناصر: كان زعيما على (المقاس).. بطوله البائن وسمرة بشرته وسماته الشخصية.
أقوله له: مضى ناصر، والآن؟
يمضي فى نفث دخانه المكلوم، ويشرح بموجب ستة عقود من التجول بين عواصم الوطن العربي ومحاورة الرؤساء والملوك العرب: سوريا بلد مهم، لكنها تقوم بدور المحرض التاريخي، أما القيادة الحقة فهي لمصر، ولا أحد غير مصر يمكنه قيادة العالم العربى.. وكل محاولات القفز على دور مصر تنتهي بصورة مأساوية للعرب جميعا كما ترى. يضيف: مصر «دولة» و«شعب» و«تاريخ» و«ثقافة».. هناك كيان يمكنه أن يواجه ويجابه، لذلك بلا مصر فلا تقوم للعرب قائمة. أقول لك؟ حين تقوى مصر تتراجع الطائفية فى لبنان!
كان دافعى الأكبر لترتيب اللقاء مع الكاتب اللبناني، صاحب التاريخ العريض، أن أسأله، ولو بصيغ التفافية غير مباشرة: لماذا تحب مصر؟
فالرجل بقلمه النابض منذ خمسينيات القرن الماضي هو واحد من قلة من الصحفيين والكتاب العرب الذين ما زالوا يكنون لمصر احتراما وحبا يليقان بقدرها، ولا يتنازلون عن رؤيتهم مهما كان بريق إغراء القول بغير هذا.
يحكي سلمان كيف أنشأوا “السفير”، فاختار معهم هيكل الاسم، ورسم حلمى التونى التصميم، وكتب محمود السعدني المقالات سرا، وقام صحفيون مصريون واخطرهم ابراهيم عامر بتأسيسها كتفا بكتف مع إخوانهم اللبنانيين. وكأن كل الحكاية من الصحافة للسياسة يمكن أن تنتهى بنا إلى مصر، زعامة وشعبا وأفرادا، وكأني كنت أنا الآخر محفزا له ليتكلم وكأني (من ريحة الحبايب).
يسرد الكثير من الحكايا والطرائف وأبطالها هيكل وبهاء الدين ومحفوظ والحكيم وإدريس.. من المنيل وقصر العيني حتى الأقصر جنوبا.
أستأذنه الانصراف، ولا أدري أيُنا كان بحاجة لصاحبه، المحب المكبوت حبه (ولو دبج آلاف المقالات سنين عددا) أم المتسائل (وهو يعرف الجواب مسبقا) لعل في جديد سرد للحجة والسبب والتعليل، يتعزز بداخله ما يريد له أن يتعزز ولو بطرق ملتفة.
تنشر بالتزامن مع المصري اليوم