الإنسان ليس القيمة النهائية عند الرأسمالية، ولا عند الدين. هو وسيلة لإنتاج الثروة التي تراكمها الرأسمالية. وهو في آن معا وسيلة للعبادة في الدين. يبدو أن الله بنظر الدين يحتاج الى الاعتبار والمزيد منه. والرأسمالية تحتاج الى الثروة وتراكمها؛ بلا حدود في الحالتين. لذلك ليس غريباً أن يتحالف أهل الدين وأهل الرأسمالية. يتحالفان على أن الإنسان وسيلة أو أداة وليس غاية في ذاته.
ليس غريباً أن يتطابق اللفظ في الدين والديْن. ما عدا تحريك الياء في كل من الكلمتين؛ كسرة على الأولى وسكون على الثانية. الله هو الديّان والرأسمالية هي الدائن. كل منهما يعتبر دوره أساسياً، بل وحيداً، في إنشاء البشرية. لولا استثمارات الرأسمالية لما استطاع الإنسان البقاء، ولولا الدين لما خُلِقَ أصلاً. الحياة ديْن من الله ومستلزماتها للبقاء ديْن من الرأسمالية. لذلك ليس غريباً أن يتحالف أصحاب الدين مع الرأسمالية. والهدف واحد وإن اختلفت الوسائل اختلافاً طفيفاً. كلاهما قائم على فكرة أن الإنسان مخلوق ليكون مديوناً، ولكي يخضع للديّان. القوة الايديولوجية للديّان تساعد أو تتحالف مع صاحب الديْن لاستيفاء الديْن. يدفع الناس الضرائب لإيفاء ديْن ما. الخلق ديْن. يُمنح كمنة على الإنسان، وعلى هذا الأخير تقديم بدل عنها، وفي الغالب يكون البدل اقتصادياً.
كان وما يزال طبيعياً أن يتحالف أصحاب الدين مع أصحاب الرأسمال. وقد تحالف أصحاب الدين في جميع الأنظمة الاجتماعية السابقة للرأسمالية مع الطبقة التي تستغل الآخرين، ومع الأنظمة التي تمارس الاستبداد لإخضاع الآخرين واستيفاء جزء من عمل العامل والفلاح وبقية الكادحين. هي استيفاء لقاء منة الخلق في الدين أو لقاء منة البقاء في النظام الاجتماعي الرأسمالي. لذلك كان، وما يزال، حتمياً أن تتحالف المؤسسة الدينية مع الرأسمالية، وقبلها مع الاقطاعية أو الفيودالية، وكل الطبقات العليا في الأنظمة الاجتماعية الطبقية السابقة واللاحقة، سواء في الأنظمة السياسية الديمقراطية أو الاستبدادية.
نادراً ما تكون طبقة رجال الدين بجانب الفقراء. فهي في الأساس تحتقر الإنسان، وتعتبره وسيلة أو أداة؛ موجود من أجل غيره. ليس قائماً بذاته يستحق أن يكون محور الاهتمام، تدور الحياة حوله ولا يكون مهمشاً حول الحياة، هذه التي تستأثر بها الطبقات العليا؛ على الأقل تستأثر بمباهجها التي تستهلكها بفضل ما تقتطعه من عمل الكادحين المهمشين، وهم أكثرية البشرية.
يقول لنا الدين أن قيام الساعة فعل إلهي. يبدو أن المهمة أخذتها الرأسمالية على عاتقها. فهي بما تحدثه من فوضى مناخية وأوبئة (وقد كُشِفَ مؤخراً بأن الكورونا وباء مصنّع بشرياً) سوف تأخذ البشرية الى نهايتها. على كل حال، المجاعات الناتجة عن إفقار معظم البشرية والحروب المفتعلة، التي ما تزال الرأسمالية تشنها ضد أعداء حقيقيين أو وهميين، وفي مواجهة تهديدات حقيقية أو وهمية، أو مصطنعة كما في أوكرانيا، هي كفيلة بالقضاء على قسم كبير من البشرية في حرب إبادة يكون النووي هو السلاح المعتمد فيها، والتلويح باستخدامه هو قيد التداول. والتلويح كلام، “والحرب أولها كلام” كما قال الشاعر. السلاح من جميع الأنواع التقليدية وغير التقليدية يشكل جزءاً كبيراً من الإنتاج الرأسمالي والتجارة العالمية. وكثير من بلدان العالم الفقيرة ترزح تحت الديْن لشراء السلاح لمواجهة أخطار محتملة أو تعمل على تحقيقها.
ساد الاعتقاد بعد سقوط الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة، قبل نحو ثلاثة عقود من الزمن، أن المواجهة العالمية قد انتهت. لكن حلف الناتو (أي الامبراطورية الأميركية) جدّد الصراع العالمي دون أن تكون القطبية الواحدة للامبراطورية مهددة. وكان من نتيجة ذلك حرب أوكرانيا، إضافة للحروب الأخرى حول العالم، خاصة في منطقتنا العربية. والحروب المعاصرة ليست ما تقوم به جيوش في معارك موضعية هامشية، لكنها حروب تقتضي زج مجتمعات بكاملها في القتال وفي التجهيز للقتال. فهي حروب إبادة مهما كانت الأسماء الأخرى التي تُعطى لها.
عداؤنا لإسرائيل لا تقتصر أسبابه على جريمة استلاب فلسطين وتحويل شعبها الى لاجئين في الخارج والداخل، بل هي أيضاً تحويل يهود فلسطين والوافدين إليها الى آلة عسكرية. اسرائيل ليست دولة تمتلك جيشاً، بل هي جيش يمتلك دولة. وجيش حوّل المجتمع الى وسيلة أو أداة لايديولوجيا دينية رأسمالية؛ وما اعتقدت إسرائيل يوماً أنها تستطيع البقاء دون أن تجعل نفسها رهينة لدولة كبرى هي الآن الامبراطورية العظمى التي تدعمها بالمال والسلاح والتكنولوجيا والايديولوجيا. وذلك بحجج واهية لا تصمد أمام العقل. في هذه الدولة ليس صدفة أن عرى التحالف بين الدين والرأسمالية هي الأوثق في العالم، حتى لا يكاد المرء يميّز بينهما.
يستطيع الدين تحرير نفسه من الارتباط شبه العضوي بالرأسمالية، بأن يُحرّر نفسه من اعتبار الإنسان أداة أو وسيلة الى اعتباره محور الحياة البشرية. إذا كان الدين فطرة فهو ضرورة، وقد كان كذلك في التاريخ البشري وفي كل المجتمعات. لكنه بحاجة الى إصلاح نفسه وذلك بالتحوّل الى اعتبار الإنسان محور الحياة، والى اعتباره غاية لا وسيلة، والى اعتبار العلاقة مع الله فردية، أساسها الإيمان بغض النظر عن كل العقائد التي ألحقت بكل دين عبر العصور، لتجعل من المؤسسات الدينية ورجالها وسطاء بين الفرد والله عن طريق القبض على المجتمع والحد من الحرية التي لا تكون إلا فردية، أي العمل بموجب الضمير الفردي. الثورة الراهنة في إيران هي بداية إصلاح ديني على هذا الطريق، مهما كانت النتائج المباشرة. فقد رأينا الثورة المضادة كيف حالت دون هذا التطوّر الذي بدأ، أو كان يمكن أن يبدأ في ثورة عام 2011 العربية. الصراع بين بعض أنظمة الاستبداد والجماعات الأصولية هو صراع على السلطة، وإرخاء القبضة أو خفض منسوب التشدد الديني في بعض الأنظمة هو ثمن لتلافي الأسوأ بالنسبة إليهم. المجتمعات الإسلامية لم تعد تطيق التشدد الديني، سواء كان النمط الإيراني أو السعودي. وأيهما يسبق على صعيد إرخاء القبضة وخفض منسوب التشدد الديني يكسب فرصة أكبر للبقاء أطول.
الإصلاح الحقيقي هو الذي يؤدي الى مصالحة في المجتمع. إذ أن النيوليبرالية حليف الدين الأساسي، ولا يمكنها التصالح مع المجتمع. فتناقضها مع بقاء المجتمع هو تناقض مطلق الأبعاد. أما الدين، فيمكنه أن يتصالح مع المجتمع بفك ارتباطه بالنيوليبرالية، وباعتبار الإنسان محور الحياة البشرية، ومتطلبات الإنسان المعيشية أساس كل مجتمع. فالفرد هو الوجه الآخر للدولة. باختصار، تقديم قضايا الوجود البشري على الايديولوجيات، سواء كانت رأسمالية نيوليبرالية أو عقيدة دينية، هو الطريق الوحيد لإصلاح الدين، إن لم نقل إنقاذه حتى ولو اختلف في مطالبه عن الموروث. ليس المطلوب تقليد الموروث بل تجاوزه. انقاذ الدين يكمن في المستقبل لا في الماضي، وفي الوجود لا في القضية. الوجود البشري يعلو في أولويته على كل قضايا الفكر، ومنها ما هو ديني. ليس الفكر الديني مقدساً. هو فكر دنيوي. قداسته افتعلها أصحاب العمامة لحمايته بإبعاده عن متناول الناس، وحصره في حوزات شيعية وجامعات سنية مختصة. الدين السياسي الحالي دين نشأ من رحم المجتمعات الإسلامية على أيدي أمثال السادات والخميني. وكانت الخمسون سنة الماضية وبالاً على المجتمعات الإسلامية، وقد آن لهذا الدين السياسي أن يرحل، وللمزاج الديني في العالم الإسلامي أن يتغيّر، ونمط العيش المفروض على المجتمع أن يُدمّر. حرية الناس، وليس الوصفات الدينية، هي ما يحرر، وهي ما يدفع المجتمع للتقدّم ولاكتساب أسباب القوة.
إن فك ارتباط الدين بالنيوليبرالية يتطلّب من المؤسسات الدينية الانحياز للوجود البشري لا لقضايا رجال الدين المفتعلة. وجود المجتمعات الإسلامية يتعرّض لأكبر أخطار بسبب الضعف وتأخر الإنتاجية والعزلة الثقافية التي تكاد تلامس عنصرية معكوسة. ليس المطلوب فك العروبة عن الإسلام، فهذا أمر مستحيل. إذ يحتاج كل مجتمع الى دين. لكن المطلوب هو إصلاح الدين عن طريق رفض الأصولية التي تتعامى عن القضايا المعيشية، وبتوجيه الدين ليكون أكثر ارتباطاً بالفقراء، وبالوجود البشري، وبآلام وعذابات معظم البشرية. وما زال الدين فكر قضايا لا فكر وجود بشري. ما يحدث في إيران هو ثورة الوجود البشري يقابلها عجز السلطة عن فهم المشكلة والارتباك في معالجتها، بل الاتجاه أكثر فأكثر نحو القمع وهدر الدماء. على الملالي الإصغاء للناس الذين يعبرون عن وجودهم ويرفضون أسلوب عيش مفروض عليهم. على الملالي الإدراك أن الثورة الثقافية هي انتفاض الوجود البشري ضد نظام عمّق الاستغلال الاقتصادي، وازداد في أيامه الفقر، ولم تعوضه استراتيجيات الحرس الثوري والمؤسسات المشابهة الموازية للدولة. كما لم ينفعه تحكّم الدين عن طريق المرشد ومؤسساته برقاب العباد.
الحرية تدق الأبواب، فعليهم الإصغاء والتجاوب. لن يزول المجتمع في إيران إذا زال نظامه، بل هو يبقى بسقوط نظامه الديني، ويتهدد وجوده ببقاء هذا النظام. فإذا انفتحت نوافذ المجتمع وأبوابه على الحرية، يصير الإنسان بفرديته هو المقابل للدولة دون الوسطاء الملالي الذين يستخدمون الله من أجل مصالح النيوليبرالية أو الأحلام الامبراطورية، التي لا تجدي تظاهراتها بمعاداة الامبراطورية إن لم تعادي الرأسمالية بتجلياتها النيوليبرالية. إذا لم ينقذ الدين نفسه بالخلاص من الدين السياسي، فسيجد الناس دينا إسلاميا بشكل آخر. دين يعبّر عن الوجود لا عن قضايا يصنعها الملالي.
ينشر بالتزامن مع موقع الفضل شلق