ذات يوم من صيف 1983 التقيت في باريس البروفسوره ماري جورج غرنديزي، العجوز الفرنسية من اصول ايطالية، والعاملة مع مؤسسة برتراند راسيل للشؤون الانسانية.
قالت انها بصدد استكمال تحقيق دولي تشرف عليه لجنة من تلك المؤسسة، حول مذبحة صبرا وشاتيلا، وانها ترغب في القدوم إلى بيروت للاستماع إلى شهادات من تبقى حيا من المخيمين لتوثيق مجريات تلك المذبحة المهولة..
ذهبت معها إلى السفارة اللبنانية حيث حصلت على التأشيرة، ثم ودعتها على امل اللقاء في بيروت.
وحين وصلت الينا انزلناها في فندق قريب، واعطيناها مكتباً في الطابق السادس، قريبا من مكتبي، وباشرت استقبال “الشهود” ممن كانوا حاضرين عند تنفيذ مجزرة صبرا وشاتيلا بأياد لبنانية (القوات اللبنانية) بحماية قوات الاحتلال الاسرائيلي، وتحت انظار الجنرال ارييل شارون قائد حملة الحرب.
صباح اليوم الرابع لوصول البروفسورة غرنديزي، جاءني اتصال من ادارة الفندق الذي انزلناها فيه يبلغني أن “ضيفتك قد اختفت”!.
اختفت؟ كيف؟ متى؟ من انتشلها من الفندق؟ من ازعجه وجودها في لبنان؟ من يريد أن يحمي ابطال المذبحة؟ من يريد طمس الوقائع وتبرئة شارون وجيش الاحتلال الاسرائيلي؟
عندما هدأت، تذكرت انني كنت في اليوم السابق قد التقيت رئيس الجمهورية “الجديد” الشيخ امين الجميل الذي انتخب بديلاً من شقيقه المقتول الشيخ بشير الجميل… فطلبته وأخبرته، فقال لي بعد اظهار اسفه: اتصل بزاهي البستاني (الذي كان قد عين، قبل ايام، مديراً عاماً للأمن العام..).
قلت: المعروف عن هذا الرجل المتكبر والذي يعيش حداداً مفتوحاً على الرئيس المقتول، بشير الجميل، انه لا يرد على طالبيه على الهاتف..
قال أمين الجميل: طيب ساطلب منه أن يطلبك..
قال زاهي البستاني بضيق واضح: نعم، استاذ، أوامرك..
كانت لهجته تنضح بالسخرية.. وضبطت اعصابي وانا أخبره بواقعة “اختفاء” مندوبة المؤسسة الدولية لبرتراند راسل التي كانت ضيفة “السفير”، احتراماً لمهمتها النبيلة: التحقيق في مذبحة صبرا وشاتيلا وتحديد المسؤولية عنه..
قال “رجل بشير الجميل” في الأمن العام، بالإنكليزية، ما ترجمته: لقد تأخرت كثيراً، يا استاذ، المرأة صارت على الطيارة..
لم يفد غضبي في تبديل الموقف، ولكنني تلقيت عبارة تفيد بالأسف، برغم شرحي أن التحقيق يفيد “العهد الميمون”، ويفيده شخصياً باعتباره يرأس الجهاز الامني المسؤول..
ولقد ختم زاهي البستاني (الذي توفي بعد سنوات قليلة من هذه الواقعة) بأن دعاني إلى الغداء ليعرفني إلى هويته الاصلية، وانه كان مع بشير الجميل وليس مع “هذا الخرع امين الجميل”.
أما الراحل شفيق الوزان، الذي كان رئيس الحكومة فقد رد على طلبي اطلاق سراح هذه المحامية النبيلة: لا تؤاخذني، يا استاذ، هلق بشوف شو فيّ اعمل!
..وبطبيعة الحال فان المحامية كانت قد أنهت رحلتها عائدة من لبنان مطرودة، إلى باريس التي جاءت منها ممثلة لمؤسسة برتراند راسل، بذكريات مرة،
…وبشهادة اضافية حول هوية من ارتكب تلك المجزرة!