كل عاملي شاعر حتى يثبت العكس،
وليس مبالغة أن يصنف جبل عامل أرض الشعر ومنبت الشعراء في لبنان.
لعلها الطبيعة، لعله المخزون الثقافي، لعله الحرمان وإدمان القهر، لعله ذلك المزيج من الظلم والشقاء وفقر الأرض مع رهافة الحس والعجز عن المشافهة في المواجهة، لعله التراث النجفي والسبق الى تلقي العلم، ولو في الحوزات، لعله الصراع من أجل إثبات الذات وتوكيد الهوية، لعلها فلسطين بنضالاتها الطويلة، ثم بمأساتها العميقة وقد تلقفها أولئك الذين يستوطنون ”عاشوراء” ويحملون كربلاء في وجدانهم ولا يرتضون الانفصال عنهما.
لعله عطر زهر الليمون وشميم الصعتر والحبق والمردكوش والروائح النفاذة لعرق الجبين في الوجوه التي تتخذ ملامحها من لون الأرض، لعل كل ذلك معاً يتفاعل فينتج كل هذا الشعر وكل هؤلاء الشعراء الذين يحفظ لهم ”العامة” قصائدهم ولا سيما تلك التي تمس شغاف قلوبهم برقتها، أو تثأر لهم من المتحكمين والمتسلطين بمنحاها النقدي الذي يداني الكاريكاتور وقد يتخطاه.
شوقي بزيع واحد من هؤلاء الشعراء العامليين الذين كادوا يشكلون حزباً أو تياراً، ذات يوم، وصنفهم البعض بجهويتهم (شعراء الجنوب) وكان في هذا التمييز إساءة أكثر مما كان فيه من التقدير.
وفي شوقي بزيع، وربما في كل شاعر، شخصيتان لا تكفان عن الصراع: الشاعر فيه يريد دائماً تجاوز الانسان فيه، والنجاح صعب أو في منزلة المستحيل.
شوقي بزيع في ديوانه الأخير ”قمصان يوسف” يغلب الرجل فيه، على الاثنين، ويدفع ”كفارة” عاملية النكهة هي الأخرى، في قصيدة مهداة الى الشاعر القاضي السيد محمد حسن الأمين.
لكن البراءة تظل معلقة بالقميص.
وكل مجد شوقي بزيع انه يحاول إثبات أنه غير بريء… وانه في البئر أو في الطريق إليها:
“واقف كالألف العمياء في بوابة الحيرة،
مرتاب، وما في قبضتي إلا عصا
ينخرها الشك الذي يقطعني،
….
“أصرخ في برية مغلقة كالبئر من حولي
وما من أحد يسمعني”
وليس صحيحاً أن شوقي، مثل يوسف النبي، قد عاد من لجة البئر حتى لا يعود الى البئر ثانية. إنه يتوغل مصراً على اكتشاف قعر البئر وأصل المياه. انه يريد أن يعرف الأجوبة على الأسئلة جميعاً، ويريد أن تحبه النساء جميعاً وأن يحبهن جميعاً. الى جهنم القمصان مقابل الرعشة الأولى، ومقابل أن ”تمزق البراكين الحمراء أقفالها وتهرول تحت ثيابك، فسرك أن تكون جديراً بسحرك”…
المنطلق يستند الى بيت لأبي العلاء المعري:
“جسدي خرقة تخاط إلى الأرض
فيا خائط الخلائق خطني”
لكن رحلة شوقي بزيع مع ”قمصان يوسف”، وقد حددها بثلاثة: قميص التجربة وقميص الشهوة وقميص الرؤية، تمتد بعيداً لتشمل اليوسفات في كل عصر… وهو يحاول أن يخيط نفسه الى جنبات الأرض قبل أن يخيطها بوحل الأرض ذاتها:
“دع قميصك للذئب
كي تنتهي عارياً كما كنت
واهبط الى آخر البئر
كي تستحق جمالك..”
لكن الزمان اختلف، ولم يعد بالإمكان في هذا الزمان الآخر أن يبرأ الذئب من شبهة الدم فوق قميصك… ربما لهذا تدوي ”نصيحة” شوقي بزيع:
“لم أبح بعد بأسراري
وقد كثَّرني اني عديد بين قتلاي
دمي أغزر ما تزهو به
جوهرة الخلق
ولم أُظهر لمن يحصونني
إلا أقلي”
لكل يوسف زليخته، ولكن شوقي يرى زليخة في كل امرأة يتشهاها خصوصاً و”قلبي فائض عني، وعيناي جحيمي”؟!
لكن حظ شوقي عاثر، بعكس يوسف، فهو لا يجمعه جمع فيلتف حول جذعه، ولا يقسمه حظ لكي ينفذ من ثقب السماوات الى مجراه،
ومثل يوسف، ليس بين شوقي وكل زليخة أحب إلا ”قميصان من عفة وتشهٍّ”…
كل النساء زليخة. وكل قمصان شوقي بزيع مشقوقة من دُبُر، ومع ذلك فهو يندفع نحو الغوص في وحل الحقيقة كيما يجدد ما قوّض الطين فيه، مؤمناً بأن ”لن يرث العشب عشب سواه”.
كل النساء زليخة، ويوسف شوقي واحد. وهو يستهلكهن واحدة اثر الأخرى، لكنهن يتوالدن باستمرار، بل ان كل واحدة منهن تولد من نفسها مرة ثانية، وكلما سقطت شمسها في الكسوف ضمدتها بيديها…
كل النساء زليخة. لكن زليخة شوقي تلاعبه وتلعب به، وتتركه في قميصه السليم يغني لوعته لغيابها:
“لم تدقي الباب من عشرين شهراً،
غير أني كلما حالفت الريح
خطى في الليل
أو دق غريب جرساً في مدن أخرى
تدافعت الى الباب
كما لو أن في صدري عشرين حصاناً”.
لكلمات شوقي بزيع في ديوانه الجديد رائحة الحريق.
وزليخة يوسف هي ”س” شوقي مضاعفة بظلالها الكثيرة.
وشوقي يتشهى أن يهبط الى آخر البئر، تماماً كما يتشهى أن يسمع جميع الأجراس التي تقرعها أسماء ”السينات”:
لاسمها جرس لا يسمى،
والغيوم كنائسها العابرة
.. والقمح أكثر أيتامها صفرة
وتدافع عن صدرها بالسيوف
وعن ثغرها بالقبل…”.
والطريق الى آخر البئر طويلة، وشوقي بزيع يفرد ابتسامته على مدى وجهه كله، ويعبئ في قلبه كل الزليخات ثم يمضي قدماً، قاصداً آخر البئر فيجيء بيوسف وقميصه والذئب!