وقف بنيامين نتنياهو أمام الكونغرس الأميركي ليُلقي خطاباً وكأنه معلم مدرسة، وكأنهم تلامذة في هذه المدرسة. كان ينقصهم أن ينشدوا نشيد دولة إسرائيل؛ لم تتوقف أيديهم عن التصفيق، وأقفيتهم عن القيام والقعود لدى كل دورة تصفيق. فالمعلم يحتاج أن يكون مبهراً في الكونغرس الأميركي، إذ لا يستطيع الالتذاذ بكل ذلك في برلمان دولته. لقد كانت متعة له كما للمشاركين في مهرجان كوميديا الدعم لإسرائيل. فكلما ازدادت إسرائيل قسوة في حرب الإبادة وارتكاب جرائم الحرب ضد فلسطين، وكلما إزداد الشقاء والعذاب في فلسطين، ازداد تمتّع الكونغرس الأميركي. فالتراجيديا التي تصيب العرب كوميديا بالنسبة إليهم.
لا ندري إذا كانوا يعرفون موقع فلسطين على الخريطة أو يدركون شيئاً عن جغرافيتها ومكانها ومكانتها بالنسبة للعرب عامة. لكن البهجة التي ظهرت على وجوهم والسرور الذي نبع في قلوبهم أطال فترات التصفيق والوقوف احتراماً.
ليس المطلوب إدانة كل الشعب الأميركي كما يحصل، لكن الذي لا شك فيه هو أن كثرة منه هم كذلك، وهم الذين يساهمون المساهمة الكبرى في إيصال صانعي القرار الأميركي إلى السلطة.
يتعاملون مع التاريخ وفق سردية تناسبهم والويل لمن يخالف هذه السردية، إذ تنصب عليه التهم. حتى الأكاديميون ومختلف علماء التاريخ والجغرافيا والاجتماع والأنثروبولوجيا، وما شابهها، لم يعد لهم احترام لديهم، ومن منهم لا يوافقهم فعليه أن يستقيل، ويلاحقونه من جامعة لأخرى كي لا يُعطى مركزاً تعليمياً، وما ارتكبوه ضد رؤساء أهم الجامعات الأميركية صار معروفاً.
إن رؤيتهم للتاريخ عبر إسرائيل تشكل رؤيتهم للعالم. بعضهم ما زالوا يعتقدون أن الأرض مسطحة، وأن الشمس تدور حولها، ويرفضون التطعيم ضد الأمراض وقائياً. بعضهم يرفضون إرسال أولادهم الى المدارس، ويكتفون بالتدريس المنزلي. بعضهم أنشأوا جامعة أو جامعات لتعليم ما يفترضون أنه الايديولوجيا الصحيحة، مع التعدي على الأكاديميا والجامعات ذات البرنامج الليبرالي. لقد تعدى أثرهم الشأن السياسي إلى الشأن الأكاديمي، ومن غير المعروف مدى استفحال هذا الاتجاه حاضراً ومستقبلاً، ومدى تأثيره على النخبة الليبرالية الحاكمة، وهم أعدادهم عشرات الملايين من الأصوات، وما من رئيس أميركي إلا وهو بحاجة إليهم. وهم كانوا الكتلة التي حملت رونالد ريغان إلى الرئاسة في ثمانينيات القرن الماضي بعد أن فاجأ مؤتمرهم بالحضور والقول: أنا منكم.
يُذكّرنا هؤلاء بالمحافظين الجدد، لا بل بمقولات الرجل الأبيض التي ظهرت في الغرب في القرن التاسع عشر. فالعالم الآخر بما فيه العرب عبء على الرجل الأبيض الذي يتوجب عليه بنظرهم تعميم الحضارة والمدنية على الآخرين الذين هم معظم البشرية سكانياً. وذلك لتبرير الاستعمار والكولونيالية التي تمارسهما إسرائيل في خليط من الاستعمار الاستيطاني والكولونيالية والعنصرية والأبارتايد والاستعلاء على الغير، واعتبار الذات متميزة بإذن إلهي يدركه الغرب ولا يدركه الملوْنون غير الرجل الأبيض.
بالطبع يخلو هكذا خطاب فاشستي نازي من السياسة إلا ما يتعلّق بدفق العون الذي يسمى مساعدات؛ يريد المزيد من ذلك ليس فقط لأداء مهمة في غزة وبقية فلسطين بل للدفاع عن أميركا: “ساعدونا كي ندافع عنكم”. وهو فعلاً خرج عن تواضع القول، وهو كذلك حقاً، إلى غطرسة جورج بوش الإبن. وهو في هذه اللحظة امتلك موارد الولايات المتحدة. إذ كانت حماسة الكونغرس الفائقة تتيح ذلك لو جرى تصويت على الأمر وسط حالة الهستيريا التي كان أعضاء الكونغرس مصابين بها.
هو واحد منهم، أو هم منه. يُعبّر عن بغضه أو ما هو في أنفسهم ضد العرب. صفّقوا له وقوفاً عند كل كلمة أو فاصلة في كلامه العنصري. يجرؤ هو على قوله ولا يجرؤون هم على الجهر به. الذي قال إن إسرائيل ضمير الولايات المتحدة كان على حق. لم يكن تأييدهم الجارف له لحظة عابرة بل تعبيراً عن عمق ما يضمرونه لشعبهم، ولا يستطيعون إعلانه، وعمق ما يشعرون به تجاه شعبنا، بل شعوب العالم التي يهزأون بها، ويسخرون منها، ويعتبرونها مطية لعظمتهم.
يبدو أن الصهيونية المسيحية في الولايات المتحدة أوسع وأعمق تأثيراً مما يُحكى عنه. وهؤلاء صهاينة أكثر مما تحتاجه إسرائيل بكثير، إذ جعلوا من مسيحيتهم مطية لها وخادماً لأهوائها. فالسلام ليس أولويتهم، وليس كذلك العدل ولطف الله. فهم وحشيتهم كاملة، لا يهمهم الغير، واستعلاؤهم على بقية البشر لا سقف له، واعتقادهم باستثنائيتهم يجعلهم غير البشر الآخرين، والذين يصفهم سيدهم نتنياهو بالبرابرة.
لا ترف جفونهم، ولا يتساءلون، إذ يرون حرب الإبادة متلفزة على شاشاتهم وكذلك جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية؛ يُعيدوننا إلى مرحلة محاكم التفتيش بإلحاق تهمة اللاسامية بمن يخالف رأيهم، أو مجرد ارتكاب “جريمة” انتقاد إسرائيل. هم ينتقدون سياسة بلدهم، لكنهم لا يسمحون بانتقاد إسرائيل، ذات القدسية بنظرهم. فهي تحقيق لوعود الله، وهي في حقيقتها تمثل حالة قصوى من العداء للعرب. نحن بنظرهم كالأميركي الذي جيء به إلى إسبانيا في القرن السادس عشر، ونوقش على أعلى المستويات، هل يستحق المسيحية، وقبل ذلك هل يُعامل كإنسان، إلى أن حسم النقاش رجل إنساني هو المطران بارتولوميو دي لاس كازاس لمصلحة الإنسان.
المعقول الأميركي – الصهيوني هو اللامعقول عند غيرهم. ولا عجب، فإن كلاهما يدعي أنه شعب الله المختار. لو حاز أي رئيس أميركي ما أصاب خطاب نتنياهو لكان تشجّع للسعي وراء رئاسة مدى الحياة. فالعصبية التي ظهرت لا تمنع ذلك. وكان رئيس حكومة إسرائيل يتكلّم وكأنه الرئيس الأميركي، والمتعة البادية على محيا الموجودين في قاعة الكونغرس تجاه خطاب ذي ايديولوجيا متخلفة، تتيح تصنيف البلدين في أدنى السلم الفكري أو الايديولوجي والإنساني. ومن يستعرض الخطاب يرى ذلك.
يبدأ الزعيم (الإسرائيلي رسمياً والأميركي فعلياً) خطابه بأنها حرب حضارة، بين حضارة غربية يُمثّلها وحضارة برابرة (وهذا هو التعبير الذي استخدمه). يصر نتنياهو على تذكير الغرب بعنصرية قرون ماضية، لكنها متعشعشة في قلوبهم ونفوسهم؛ وبقدر ما حاولوا إخفاءها، ظهرت في التصفيق استحساناً لما يقوله غيرهم، وما يبطنونه هم. دولة الأبارتايد في إسرائيل تشبه ما كان في جنوب أفريقيا قبل نيلسون مانديلا، وتفوق عليها نتنياهو في جرائم الحرب والإبادة بما لم يشهده التاريخ من قبل. ليسوا بحاجة إلى محرقة نازية للبرهان أنهم في ذلك أشد وأدهى ضد الفلسطينيين والعرب عموماً.
خلال الخطاب، يُكرّر الصهيوني مقولة “إما نحن وإما هم”، ويتحدث عمن يمثل الشر (أعداؤهم العرب)، ومن يمثل الخير (إسرائيل والولايات المتحدة).
ليست الولايات المتحدة بمنأى عن الفاشية، وقد رأينا النازيين الجدد يعقدون مؤتمراً منذ أسابيع في مدينة نيويورك. ظاهرة اليمين الأقصى المائل إلى الفاشية ليست ظاهرة أوروبية وحسب، بل قاعدتها الأساسية الولايات المتحدة. وبلدان كبرى مثل الهند ليست بمنأى عنها. ولا نعلم مصير عالم تعمه الفاشية، ولا يقف بوجهها أحد. وكلما انفتحت شعوب عليها، لا يبقى إلا العرب في العالم كأعداء لهم. والفاشية بحاجة إلى شعوب تضعها في المرتبة الأدنى والأقرب إلى أميركا دي لاس كازاس. والعرب في المضمار.
كان تحدث جارد دياموند في كتابه “انهيارات” عن سقوط حضارات بانهيارها من داخلها. فهل هذا ما يصيب البشرية؟ مصيبة إذا بقي العالم بمعظمه يرقص على الأنغام الأميركية مع توسع الفاشية.