تذهب بعض التحليلات، لدى تناولها انتفاضتي السودان والجزائر، إلى التركيز على وعي الشارعين اللذان تجنبا الوقوع في مطبات الثورات العربية الأخرى، وتلاحظ، محقةً في أغلب الأحيان، سيادة شعارات السلمية ورفض التدخلات الخارجية والاستقطابات التي أودت بتجارب مجاورة. وتضيف تلك التحليلات أن كل ذلك ناتجٌ عن التراكم الكمي للوعي الذي بُني على الاستفادة من الأخطاء التي دفعت ثمنها الشعوب التي فشل حراكها.
كل ذلك لا يخلو من صحة، لكنه لا يقول إلا نصف الحقيقة. النصف الآخر فهو أن القوى التي لعبت أدواراً سلبية وواضحة في الدول العربية التي اهتزت عروشها، قد تغيرت هي الأخرى وطورت من أساليبها، وباتت تدخلاتها أكثر مكراً وأقل وضوحاً. الديكتاتوريات أيضاً تتعلم من أخطائها وتراكم وعياً مضاداً تبني عليه مقومات استمرارها.
وهكذا، فاستقالة بوتفليقة لا تضع بالضرورة حداً لحكم الجنرالات الذين يحسبون بدقة الخطوات القادمة، ولا أحد يعرف حجم أو مدى نفوذ دول الجوار عليهم، ولم يكن عبثاً التلميحات العديدة عن سيسي جزائري تدعمه مشيخات وإمارات نفطية.
أما البشير فقد سبق له أن أرسل جيشه إلى اليمن إلى جانب السعودية، ولا شك أن جنرالاته قد مدوا جسور العلاقات “الخاصة” بينهم وبين جنرالات الأمراء وأولياء العهد. ثم دار على نفسه دورة كاملة فزار نظيره السوري لأسباب لم يتم الكشف عنها بدقة، وكان لافتاً الهجوم الذي قوبلت به الزيارة مقارنةً بالهدوء والصمت والحيادية الذين قوبلت بهم زيارة أخرى قام بها الزعيم المُقال في كانون الأول الماضي لأمير قطر، الشيخ تميم الذي صرح، وكانت احتجاجات الشارع السوداني في بداياتها، احتجاجاً على دعمه للشعب والاستقرار أي لحكم البشير!
وفي مجال آخر، قريب وبعيد، حاضرٍ ومنسي في آن، تبقى ليبيا بحكومتها “المركزية” ذات الميول القطرية والتشجيع الإيطالي، وحفترها واستطالاته السعودية / المصرية والدعم الفرنسي الذي يتناقص خجله مع الأيام، مثالا للتجاذبات وصراعات المصالح التي لا تتوقف عند شعب أو حرية أو كرامة منذ سايكس بيكو أو قبلها بكثير.
هذا يعني أن المعركة غير المتكافئة أصلاً بين شعوبٍ ثائرة وأنظمةٍ جائرة هي في بداياتها، وتخضع لتغييرات وصراعات نفوذ خارجية وداخلية مستمرة وقاسية.
الوعي أولاً، ثم الوعي ثانياً، أي العقل المُؤَسِسْ (على حد تعبير المرحوم الكبير جورج طرابيشي) الذي يرسم ما أمكن طريق الغد بعيداً عن الحماس، هو الضمانة الوحيدة كي لا يتكرر السيسي وحفتر والمجالس الوطنية والائتلافات وجمعيات أصدقاء الشعوب.