تحية الى روح صلاح ستيتيه
كيف يتحدث التلميذ عن معلمه الذي لم يأخذ عنه إلا القليل القليل لينتبه ـ متأخراً – إلى أنه كان يمكنه أن يأخذ عنه أكثر لو أنه لحق به إلى اللغة الفرنسية بدلاً من أن يقرأه أو يسمعه ملقياً شعره الساحر بلغة لم يُعلّمه منها إلا القليل وتركه على أبوابها يحاول نفخ الروح في النص المترجم الذي لا يمكن أن يرتقي إلى مدارج وجدان الشاعر؟!
سأتحدّث بعد لقاء وقع متأخراً وبعد افتراق طويل ألغى المسافة بين الأستاذ وتلميذه فصارا صديقين في الغربة، متكاملين في الوجدان على اختلاف أداة التعبير الذي يبتدعه الإحساس بالجمال وتذوّق هذا السحر الذي راسمه الشعر.
عرفتُ صلاح ستيتية، أول ما عرفته، أستاذاً للغة الفرنسية في الكلية العاملية ببيروت.
كان يأتينا وفي يده حقيبة جلدية سوداء لا تغادر يسراه. يجتهد في أن يعلّمنا لغة كنا لا نحبّها لأسباب سياسية، فقد كانت ثورة الجزائر تمضي نحو عامها الثالث، وسط مجازر يومية ترتكبها قوات الاحتلال الفرنسي في مختلف أنحاء تلك البلاد التي لم نكن نعرف عنها الكثير، وإن كانت بطولات مجاهديها تصلنا عبر القاهرة، وبالذات عبر صوت العرب.
فائق التهذيب، بصوت خافت، ونظرات هادئة تطل من خلف نظارتيه.
ولقد نجح في إقناع أكثرنا، ولو ظاهرياً، بضرورة الفصل بين اللغة بمبدعيها من الشعراء والفلاسفة والكتّاب وبين سياسة الدولة الاستعمارية وحتمية استنكارها ورفض ارتكاباتها في الجزائر خصوصاً وسائر مستعمراتها العربية والأفريقية.
لم تتح لي الفرصة آنذاك لمحاورته بلغة لا أتقنها، كما يريد لي، ولذا اكتفيتُ بأن أتأمل وجهه الهادئ بعينيه الصغيرتين الناظرتين دائماً إلى ما لا نراه… ولم أكن أعرف أنه شاعر بالفرنسية، لكن مظهره الذي يوحي بأنه في شغل شاغل عما حوله كان يأخذني إلى التقدير بأنه إما شاعر وإما فيلسوف.
ولسوف تمرّ سنوات طويلة قبل أن نلتقي مجدداً، وقد اختلف موقع كل منا، فأما هو فقد انتقل إلى وزارة الخارجية بعد فترة من العمل كمندوب للبنان في منظمة اليونسكو… ثم صار سفيراً وخدم في بلدان عدة أبرزها المغرب قبل أن يعود إلى بيروت كأمين عام لوزارة الخارجية التي كانت قد انقسمت شطرين مع انقسام الحكم إلى حكومتين في ظل شغور موقع رئاسة الدولة… ويبدو أن هذا الشغور هو من إبداعات الفولكلور اللبناني كالدبكة والتبولة وإطلاق الرصاص في مناسبة الفرح والحــزن والاستقبال والوداع وما بينهما أو عندما يعنّ ببال حامل السلاح أن يمازح الموجودين.
وأما أنا فقد انتسبت إلى المهنة التي تجبرك أن تعرف كثيراً من الناس وعنهم وأكثر عن الوقائع والأحداث، ولكنها لا تعطيك متعة قراءة الشعر أو الاستماع به وسط جعجعات السياسيين وانفجارات القذائف والصواريخ في الحروب التي تملأ منطقتنا دماء ودماراً وتغتال الشعر وأصوات الحساسين وطرب الست أو أغاني فيروز.
وهكذا التقيت صلاح ستيتية، لأول مرة بعد انقطاع طويل، كأمين عام لوزارة الخارجية… ولكنني كنتُ قد قرأت بعض شعره معرّباً، وبعضه بالفرنسية التي أخذت القليل القليل منها عنه، ولكن أنّى لي أن أتسلّق معارج عبقريته التي بهرت أهل الفرنسية قبل أن تُبهرنا وأن أتذوّق رهافة لغة أقف على بابها واجتهد في أن أتذوقها واستكشاف الدلالات البعيدة لكلماتها الرقيقة، خصوصاً في الشعر.
ولقد جمعتنا صداقة يعتزّ بها كلانا مع الرئيس سليم الحص، الذي يُعرف عنه البلاغة مع الإيجاز في التعبير، ولغته المميزة التي تُعرف بالدقة العلمية مع جزالة في الأسلوب الصعب، خصوصاً وأنه يطوّع الثقافة للتعبير عن حياتنا السياسية التي تضرّ بها الفصاحة والدقة ووضوح المعنى والدلالات، كما تضرّ بها النزاهة ونظافة الكفّ والدخول مباشرة إلى قلب المعنى.
كنت أتابع أخباره مع أصدقاء من متذوّقي شعره، ومنهم من اجتهد في ترجمة بعض نتاجه الغزير والذي أحلّه في الموقع المميّز بين المبدعين بالفرنسية. ولقد أعانت هذه الترجمات أمثالي من مقدّري هذا الشاعر الرقيق، المكتنز ثقافة والمتوغل في علم اللغة الفرنسية ومستكشف مكامن جمالها ورقتها، على مواكبته من على البعد في رحلته المبهجة مع الكلمات المجنّحة التي تنشر موسيقى تنعش الروح، حتى وأنت على باب المعنى.
ثم أنني اجتهدت في قراءة ما كتبه عنه بعض كبار الأدباء والنقاد ومتذوقي الشعر والمتعمّقين في فهم الدلالات والإرشادات والإيماءات التي يحفل بها إبداع صلاح ستيتية بالفرنسية.
وعبر اللقاءات المتقطعة والمتباعدة حاولت أن أقرأ في العينين الصغيرتين والمشعتين لصلاح ستيتية دواوين لم يكتبها بعد، كما اكتشفت جوانب أخرى من ثقافته الإسلامية العميقة، والتي أخذته إلى الانبهار بشخصية الرسول العربي محمد بن عبد الله، كما بعبقرية النص القرآني وشموله.
ولأن اللبنانيين خاصة والعرب عامة لم يُتَح لهم أن يقرأوا صلاح ستيتية بلغتهم، لغته الأم، فلقد ظلوا يعرفون عنه، ويسمعون به كثيراً ويقرأون له القليل القليل معرّباً فيأخذهم الاعتزاز بابنهم البار، حتى لو حُرمت ذائقتهم من التحليق مع شعره إلى حيث استطاع الطيران مزوّداً بجناحين من قوس قزح.
أما أهل بيروت «خطيبة المشرق»… فقد استوطنوا بعض دواوين صلاح ستيتية وإن لم يستأذنهم، ثم أنهم لم يعرفوا أنهم قد أمدوا ابنهم بالكثير من الصور التي تحفل بها صفحات دواوينه… وإن كان هو لم ينس بيت الأهل الذي ولد فيه وقد بناه والده المفتش التربوي (الذي تسنّى له كمدرس في الباروك أن يتعرّف إلى رشيد نخلة وابنه المعزز بثقافته أمين نخلة وأن يحفظ عنهما الشعر)… ولذلك بقيت في ذاكرته صورة منطقة المقاصد ـ الطريق الجديدة وفيها البيت الذي ُحملت إليه مواد البناء على الجمال ـ وبيروت ليست أكثر من سبعة أحياء بعدد أبواب السور وسكانها 9 آلاف نسمة.
على أن صلاح ستيتية قد طمأنهم مراراً إلى أن ابنهم لم يهجرهم ولم يبتعد عنهم موغلاً في النسيان، فكتب متباهياً:
«أنتمي للأرض، ربما الأكثر أهمية في التاريخ، والتي أنجبت الأنبياء… نحن الإبراهيميين الذين شاهدوا ولادة الله».
إنه شهادة على عصر عنوانه نهوض الثقافة واقتحامها آفاقاً جديدة، مع الثورة العلمية التي ابتدعت عالماً مختلفاً تماماً عن العالم الذي عشنا فيه ففهمناه، وعلينا الآن مباشرة فهم العصر المختلف بحيث نكاد نصير أغراباً فيه، إلا إذا سمح لنا العمر والجهد.
إنه بشخصه شهادة على عصر، فهو قد أغنى ذائقتنا بشعره، كما أغنى مكتبتنا بنتاجه المميز، ثم أنه قد خبر السياسة واطلع على أسرارها عبر عمله الديبلوماسي، وعرف كباراً وصادق العشرات من الشخصيات من نوابغ الفنون والآداب الذين تركوا بصماتهم على حياتنا. لقد جمع بين ثقافتين وركائز التنوير في حضارتين واستوعب أنماط الإبداع الجديد. ولست أدري ما إذا كان قد أخذ بعض أخيلته وتهويماته من الرسامين المبدعين الذين صادقوه وصادقهم أم أنه قد أعطاهم بعض قصائده لينقشوها باللون فتنساب دواوين مشعّة بألوان قوس قزح.
لقد قرأ جورج شحاده كما قرأ أدونيس وقرأ بيار جان جوف ورينيه شار وايف بونغور واندريه دير بوشيه وادوار غليان… وقد أخذ من النصوص اللون وأعطاها الحياة.
ولقد عرفتُ مع صلاح ستيتية الشاعر صلاح ستيتية المحدّث بأسلوبه الممتع، الذي تخالطه سخرية محببة، وصحبته في رحلة ثقافية عبر القارات، حيث تختلط الشعوب ويبرز المبدعون الكبار وعباقرة التاريخ ومآسي الحروب وأحلام الإخوة والسعادة والأطفال.
كما عرفتُ صلاح ستيتية في مسارات مغلقة، وسمعت اعترافاته الخطيرة باقتباس المقدس.. فهو يعترف بالتأثير المؤكد للقرآن الكريم على ثقافته ومن ثم على شعره، بلغته المميّزة التي ترقّ فتشف في بعض السور، وتغلظ في أخرى، بحسب موقعها وما أريد منها وهل هي للتنبيه أم هي للتوعية والترشيد، ثم أنها تقارب الشعر أو تتجاوزه رقة وغنائية في سور أخرى (سورة يوسف مثلاً، أو آل عمران) وغيرهما من السورة المدينية.
أيّها المعلم الذي هرب منا ولم يخرج علينا.
لم تأخذك اللغة الأخرى من هويتك، ولم يُسحرك العالم الجميل الذي سكنته وسكنك فيُنسيك أهلك وقضاياهم. لم تقطع بالغضب من عجزنا وهزائمنا صلة الرحم بالعروبة، ولم تنكر هويتك ولا أنت أنكرت ذاتك ولا قطعت جذورك وأنت تسمح لنفسك بأن تغتني أعماقك بالتيارات الفكرية والسياسية العالمية.
أيها الذي يكتب وينسى ثم يكتب وينسى أو يتناسى: إننا لا ننسى لك أنك قد ناضلت طويلاً ـ مع أبناء بررة بأمتهم مثلك ـ حتى تم اعتماد العربية لغة رسمية…
هل أتت بقية القصيدة، أيّها الذي قد يبقى بيت من الشعر في ذاكرته شهوراً طويلة، في انتظار اكتمال المعنى؟
إنه المعلم الذي صار صديقاً.
ليس أمتع من أن تسمح لك الظروف بأن تصير صديق أستاذك، شاعر الغربتيْن، الذي لم نعرف إلا منه أن العين تأكل والأذن تشرب، وأن الحياة تحيا والموت يحيا أيضاً، والموت يربح في الحالتين. لكنني واحد ممن يطمعون لأن أكون بين مَن يُحبّهم، أولئك الذين يحتجزون في نفوسهم وردة.
ولقد تعلمنا من صلاح ستيتية ان جنون الحكيم حكمته، وأن عليك أن تفكر بداية بذاتك، وبعد ذلك يأتي الذكاء ليرتب الأفكار.
ولسنا نجرؤ أن نسأل الإله، كما سأله: ماذا تفعل؟ فقال: كلمات متقاطعة.
كذلك فلستُ مثل صلاح ستيتية الذي في جيبه علبة كبريت وفي رأسه آلاف الحرائق، والذي يرى أن الجدران هي دفاتر المجانين.
لقد أعزّني صلاح ستيتية بهذه العلاقة العارضة في بدايتها والوثيقة الآن، فأنا أستطيع أن أذكره بين أساتذتي، حتى وأنا لم أفهم دروسه كما ينبغي، كما أستطيع أن أتباهى بصداقته وهو الشاعر المميّز الذي أجتهدُ لأن أفهم شعره بعقلي فيغلبه قلبي.. وهكذا كبرتُ به وبها.
نشرت في “السفير”، 31-7-2015