لماذا الانحدار إلى الفلسفة؟!
ينتحر الشاعر إذا صار فيلسوفاً.
ويصعب على القارئ أن يحافظ على توازنه وهو يرافق الشاعر في رحلة انحداره من منزلة الأنبياء إلى مراتب الرياضيين وتراكيبهم المعقدة.
سعيد عقل وأدونيس، وكل لأسبابه، يفرضان على جمهورهما العريض تمزقاً غير مبرر بين الإسراء مع رؤاهما التي تكاد ترفعهما بقوة الإبداع وسحر الرؤى إلى سدة المبشرين بحياة أفضل، وبين الضياع في تيه الادعاءات والأحقاد وكراهية الذات، حتى ليخرج سامعهما من جلده إلى صحراء الغربة وصقيع الانعزال في سديم بغير تخوم.
لماذا هذا التوغل في التنكر؟
لماذا هذا العراك المضني ضد مكوّنات الذات، والذي تَفضُل فيه الهزيمة النصر؟!
لماذا يتعارك المتنبي مع النبي، وإلامَ يريد أن يصل، على فرض أنه قد ألحق به الهزيمة كاملة؟
ولماذا يتهاوى ”النبي” إلى درجة ”قوال الزجل”، فيصطنع لنفسه خصومات مع أبطال أساطير، ثم ينقض عليهم فيفتك بهم فتكاً ليكتشف مع آخر كلمة أن المشهد مثير للضحك أكثر منه مصدراً لارتقاء الفكر أو لاستيلاد معانٍ أنبل لحياة الإنسان ونضالاته المتصلة من أجل تحقيق إنسانيته؟
لماذا يتنكب الشاعر السلاح ويذهب إلى الحرب ضد ظلاميات الأمس، متوهماً أنه النور، أو أن النور في ”الجهة الأخرى”، فيكسر كل المصابيح ويطفئ الشمع جميعاً، مقرراً مع كل بداية أن نبدأ من البداية التي يصعب تحديد نقطة البداية لها؟
ومن قال إن النور في ”الجهة الأخرى” قابل للنقل أو الانتقال بالاقتباس المباشر، أو بمجرد إعلان الحاجة إليه، أو الاستعداد لإعلان الانتساب إلى فلسفته التي استولدتها حاجات مختلفة، في ظروف مختلفة لمجتمعات مختلفة، وعبر حرب مفتوحة على ذلك النور نفسه حينما كانت الجهة الأخرى في الجهة الأخرى؟
بين الشعر والفلسفة في سعيد عقل كما في أدونيس، لا يتردد أحد في اختيار الشاعر.
لكن الفلسفة تجرف الشعر وترميه في مجاهل الغرض الجبان، وحين تشتد الحرب حول الفلسفة لا تجد غير الشعر وقوداً لنارها التي سيظل من الصعب إطفاؤها، مع أن لا وظيفة مفيدة لها: فلا هي تشيع الدفء، ولا هي تنضج الهمة القاعدة.
هل نستطيع التقدم برجاء من شعرائنا: أن يحفظوا لنا حقنا بالحلم، فلا ينتهكوه من قبل أن يتكامل، ولا يتخذوا منه انكشارياً لمعاركهم الموهومة ضد أحلامهم بالذات؟