يستطيع سعد الله ونوس الادعاء أنه عاش دائماً خارج دائرة المباغتة.
ليست حكاية تطير أو تشاؤم أو سوداوية في المزاج، انها مسألة قراءة للمستقبل في ضوء معطيات الحاضر بعيداً عن جموح العاطفة الشخصية ونشوة الحماسة الوطنية أو القومية.
من زمان انتدب سعد الله ونوس نفسه لدور »الزرقاء« التي استعادها في مسرحيته الممتازة الأخيرة »ملحمة السراب« (وقد نشرتها »السفير« على حلقات ظهرت خاتمتها في »السفير الثقافي« يوم الجمعة الماضي).
من زمان وهو يحاول أن »يُري« الناس ما رأى وإلى أين هم ذاهبون، ويحذرهم من النهايات المفجعة التي ستنتهي إليها البدايات الزاهية التي أخرجت عن مسارها أو لُوِيت أعناقها لتصير مقاعد سلطة للثوار القدامى.
لا سياسة بلا ثقافة،
وفي بلاد حكامها جهلة يصبح سوء التقدير نهجاً، ويصبح اللجوء الى القمع حتمياً، لأن سعة الصدر لا تنفصل عن سعة الأفق ولأن الحكمة هي توأم المعرفة، ولأن نفاذ البصيرة إنما يتكئ على مخزون ثقافي تتكدس فيه تجارب الآخرين والدروس المستخلصة من مجريات الماضي ومن الحسابات الدقيقة للتوازن التي حكمت فقررت النتائج ونصَّبت أبطالاً فوق أجداث الفاشلين والمغامرين الأغبياء.
لا سياسة بلا ثقافة،
لكن الثقافة أوسع وأغنى وأعمق بكثير من أن يستوعبها الساسة المحترفون المنهمكون عادة في يومياتهم وفي التكتكات المعنية بمواجهة الخصوم أكثر من اهتمامهم بالشأن العام وأبعاده الوطنية، اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وأمنيا، والذين يجتهدون في ملاءمة مواقفهم مع التحولات فيسبحون مع الموجة سعداء بأن تأخذهم إلى مقصدها كائناً ما كان بُعد هذا المقصد عن الشعارات والادعاءات التي يحملون.
ولأن سعد الله ونوس مثقف كبير وصاحب رؤيا، تكتسب كتاباته شفافية مميزة تداني النبوءات أو »قراءة الغيب«، فيحدثك عن الغد وكأنه يقرأ في كتاب مفتوح.
ربما لهذا تنضح كلمات سعد الله ونوس ألماً وفجيعة.
إنه مؤمن بأن قدرات الأمة تسمح لها بواقع أفضل وبغد يليق بإنسانها المؤهل والحاضر لأن يعطي بغير حدود،
ولكنه على يقين من أن هذه القدرات مضيَّعة وستظل مضيَّعة حتى »يغيّر القوم ما في أنفسهم«، وبالتالي فإن الأمة محكومة بأن يكون غدها أتعس من يومها حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
لكأنه يكتب بدمه هذا الريفي الآتي من »حصين البحر« المرتفعة فوق طرطوس، كحارس للشاطئ السوري الذي طالما شهد الغزاة قادمين، ليشهد من ثم اندثارهم… ولو بعد جيل أو أجيال!
و»حصين البحر« تكاد تكون قعر المأساة، ببيوت الفلاحين الفقراء المتناثرة على أكثر من تلة، والتي سرعان ما انتفخت فاتسعت رقعتها ومسخ دخول الاسمنت المسلح سويتها القديمة فلا هي بقيت قرية ساكنة ووديعة ولا هي صارت مدينة أو بعض مدينة، وخسرت كمعظم القرى والدساكر في أرياف سوريا ولبنان معالمها القديمة بغير أن تكتسب طابعاً أو نكهة تميزها عن سائر القرى الشوهاء المجاورة.
من »حصين البحر« الى دمشق عبر طرطوس، ثم الى باريس عبر القاهرة، فإلى بيروت عبر النبوءات التي كانت قد جعلت من سعد الله ونوس واحداً من أبرز كتّاب المسرح العربي في فترة قياسية، دأب الفتى الريفي على تحذير الناس وبأسلوب زرقاء اليمامة من أن »الكوارث تسير إليهم«، وهم عنه لاهون، فإذا انتبهوا إليه زجروه واتهموه في عقله أو في أحلامه.
ولأن الحريات شرط حياة للثقافة، ولأن القمع لا يولد إلا الجهل والأمية والعقم والخرس، فقد جعل سعد الله ونوس لكتاباته قضية هي الحرية، إذ لا يكون الانسان إنسانا ولا تصح مطالبته بدور أو بواجب أو بإنجاز إذا هو لم يكن حراً، محترمة كرامته وحقوقه الطبيعية.
سعد الله ونوس مقاتل نادر،
أحياناً تحس كأنه »فارس« يعيش خارج زمانه المنقضي،
وغالباً ما تشعر بأنه بشارة بغدٍ سيولد عبر المأساة.
والفارس سعد الله ونوس يقاتل الآن بإيمانه بالناس، إضافة الى فكره وقلمه ورؤاه… بل هو يقاتل بلحمه ودمه،
وهو يقاتل معركتين هائلتين في وقت معاً،
ولأنه عظيم الإيمان بالانسان فهو يحقق يومياً انتصارات صغيرة لكنها مهمة جداً واستثنائية على مرضه العضال.
وفي مسرحيته الجديدة »ملحمة السراب« يبلغ سعد الله ونوس ذروة التحريض والتعبئة ضد الفساد والإفساد والطغيان، ضد النظام العالمي الجديد، ضد هذا التحالف الشيطاني بين السلطة والمال ورجال الدين والضعف البنيوي المريع في المجتمع المتخلف والمقموع،
إنه مجتمع غير مؤهل لدخول المستقبل، فإن لم يغيره أهله وفق مصالحهم وآمالهم غيّره »الآخرون« لحسابهم… فالفتنة أشد فتكاً من الحرب، والاستسلام يجيء ثمرة لعصر من الاستكانة والجمود ومخالفة قوانين الطبيعة والغربة عن العصر، وذلك الخرس الذي سرعان ما يتحول الى أب شرعي للنفاق والممالأة ولو على حساب الذات.
سعد الله ونوس يكتب بوجعه، ويتقصّد أن يوجعك،
إنه يعرض عليك صورتك الحقيقية في مرآة رؤاه المستقبلية،
وليس هو القاسي بل لعل غفلتنا قد طالت أكثر مما يجب.
قراءة سياسية في “الادب الحديث في لبنان”
السؤال قديم جداً لكنه ملحاح، ويعود فيفرض نفسه في لحظات التحول ومحاولات تبديل الاتجاه واختلاف الأزمنة وقوى التحكم: هل يمكن النظر إلى الثقافة من خارج السياسة؟! هل الثقافة عمل إبداعي بريء من التأثر ثم من التأثير بأوضاع البلاد وأهلها، أي جمهرة القراء والنخبة من الكتّاب والمثقفين، وصولاً إلى »مركز القرار«؟!
ثم، هل يقتصر الحكم على المبدع على السياسة وحدها، وهل تجوز محاسبة إنتاجه انطلاقاً من دوره المفترض سياسياً، سواء أكان قد انتدب نفسه لأدائه أم كُلف بهذا الدور تكليفاً وتحول بالتالي إلى جزء من جهاز يخدم أغراضاً سياسية لجهات خارجية لها امتداداتها الداخلية؟!
وإذا كانت المباذل الشخصية والفضائح الصغيرة لا تصلح أساساً للحكم على مبدع، فهل يجوز التغاضي عن دوره، أو تأثيره السياسي، لا سيما إذا كان جزءاً من تيار، له ما قبله وله ما بعده، وله فعله في وجدان الناس وفي فهمهم لحاضرهم ومستقبلهم وطموحاتهم المشروعة الى دور حضاري؟!
كتاب جهاد فاضل الجديد يطرح بقوة هذه الأسئلة الجدية..
وهو لا يكتفي بعرض المسألة كمراقب أو حتى كشاهد، بل يستفيد من خلاصة تجربته الصحافية الطويلة، في المجال الثقافي، ومن لقاءاته وقراءاته ومتابعته لكي يصدر »القرارات الظنية« ضد عدد من الكتّاب والشعراء الذين أبدعوا ثقافياً ولكن من ضمن منظور سياسي محدد وربما لخدمة وجهة سياسية بالذات.
وهي »نظرة مغايرة« فعلاً تلك التي تتجلى في معالجة جهاد فاضل »للأدب الحديث في لبنان« (صدر عن دار رياض نجيب الريس للنشر).
انها تكاد تكون »قراءة سياسية« للواقع الثقافي، ومراجعة تصحيحية لكثير من الأحكام والمفاهيم التي أريد ترسيخها وتعميمها حول بعض كبار الكتّاب والأدباء من مبدعي النهضة العربية الحديثة.
أو انها قراءة سياسية مصحِّحة لأحكام سياسية وتصنيفات سياسية خاطئة أو ظالمة سبق أن أصدرها بعض الدارسين أو المتصدرين لكتابة التاريخ وتقييم النتاج الثقافي والمبدعين انطلاقاً من وجهة نظر سياسية قاصرة أو فئوية أو متجنية بحيث لا تتورع أحياناً عن ارتكاب جريمة التزوير واستخدام المزوَّر.
ولا يخفي جهاد فاضل قصده ولا يوارب في الإعلان، ومنذ السطر الأول، انه إنما يقود هجوماً مضاداً على تلك »الفئة من المثقفين« التي استفادت من »تزايد نفوذ الأجانب ابتداءً من الربع الثاني من هذا القرن وعقب تقسيمهم المنطقة واحتلالهم لها احتلالاً مباشراً، لكي تحاول ضرب مشروع النهضة وتحويله الى مشاريع مفصلة أحياناً على قد فئة أو طائفة أو مذهب« ولتزوير التاريخ والتفكير بإحلال اللغة الأجنبية أو اللهجة الدارجة محل اللغة العربية، والتنظير للتعددية الثقافية والحضارية واللغوية، ونسبة لبنان إلى حضارة أخرى غير الحضارة العربية.
في هذا السياق، كان لا بد من أن يتوقف جهاد فاضل مطولاً أمام الحركة السياسية لبعض رموز الأقليات داخل الحركة الثقافية، وترويجها لمفهوم غربي للحداثة، وهو يعالج الأمر ضمن إطاره القومي فيرى تماثلاً يصل الى التكامل بين القول بالفينيقية (هنا) للانفصال عن العرب، وبين »الأمازيغية« في المغرب العربي… بل هو يربط بين »المجلة الفينيقية« التي أصدرها ميشال شيحا في بدايات عهد الانتداب وبين دعوة سعيد عقل الى هجر اللغة العربية واعتماد العامية أو المحكية وبالحرف اللاتيني بديلاً، كما فعل في مجلته المنقطعة الصدور »لبنان«، ثم بينهما وبين مجلة أدونيس »مواقف«.
وتلك سياسة كلية، وإن كانت الأدوات ثقافية.
ويلاحظ جهاد فاضل ان رواد عصر النهضة وقد كانوا بأكثريتهم من المسيحيين، اندفعوا لتأكيد عروبتهم وتأصيلها، محررين أنفسهم من أية شبهة لعقدة الأقلية، في حين أن القائلين بالتحديثية الغربية أغرقوا أنفسهم في المنطق الأقلوي كوظيفة سياسية لإعلان الانفصال عن الأمة.
في الكتاب لمحات من سير بعض كبار الشعراء والأدباء أبرزهم: توفيق يوسف عواد، كمال جنبلاط، ميشال طراد، الأخطل الصغير (بشارة الخوري)، أمين نخلة، عمر الزعني،
كذلك فيه فصل عن »لبنانيي المهجر المصري« وفصل آخر عن »لبنانيي المهجر الأميركي«،
وفي هذين الفصلين استعادة لبعض اللطائف وكشف بعض الجوانب الخفية في شخصيات هؤلاء الكبار ومباذلهم و»فضائحهم الصغيرة«… ولعل موقف مخائيل نعيمة من جبران خليل جبران يشكل نموذجاً مريعاً لتأثير الأحقاد الشخصية والمنافسات غير الموضوعية على الأحكام والتقييم.
لكن »معركة« الكتاب محددة تماماً: انها مطالعة جامعة ضد مدرسة مجلة »شعر« وكل من ساهم في الترويج لها أو التأثر بها، تمهيداً لإصدار حكم قاطع ضد يوسف الخال، أساساً، وأدونيس، بالاستطراد، وإدانتهما بتهم أبسطها تشويه الثقافة العربية والافتراء عليها واحتقار إنسانها ومحاولة تزوير تاريخه.
»لم تكن »شعر« مجلة تحديث بريء، بل كانت تدعو الى نمط خاص من التحديث من شأنه إنهاء ثقافة معينة هي الثقافة العربية الاسلامية، وإحلال ثقافة أخرى هي الثقافة الأوروبية والغربية محلها.. هذا إذا لم تكن المجلة نوعاً من حملة ثقافية غربية تعاونت لأدائها مع منظمة ثقافية مشبوهة هي الأخرى، هي »منظمة حرية الثقافة« التي ثبت انها كانت تموّل تمويلاً مباشراً من المخابرات المركزية الأميركية«.
وينقل جهاد فاضل عن يوسف الخال أنه كان يردد دائماً »نحن المسيحيين صنعنا للعرب ثلاث نهضات: النهضة الجاهلية والنهضة العباسية والنهضة المعاصرة«… وكأنه بذلك كان يعتمد »الكتاب الفاسد« للأب لويس شيخو »شعراء النصرانية في العصر الجاهلي« وقد نصّر فيه من لم يكن نصرانياً أبداً كالسموأل (اليهودي) وغيره من الشعراء الجاهليين الذين لم يكونوا عرفوا شيئاً عن النصرانية.
كذلك ينقل عن الخال (وهو القومي السوري القديم) انه كان يدعو الى قيام »أربع لغات شقيقة بحسب البيئة الجغرافية والانسانية التي استوطنتها، وهي: لغة المشرق العربي، ولغة الجزيرة العربية وما حولها ولغة وادي النيل ولغة المغرب العربي«.
أما أدونيس فهو صاحب »السيرة الملتبسة«. وجهاد فاضل يرى أن أدونيس ليس شاعراً أو كاتباً فقط، بل هو سياسي أو على الأصح »داعية«. وأدونيس كان مثل يوسف الخال »لا يرى في التراث العربي، الواحد، وحدة كاملة، بل يعتبره مجموعات تراثات متناقضة، متصادمة، كما يرى أيضاً ان الحداثة ينبغي أن تفترق عن التراث العربي الإسلامي السائد والمكرس لتبني وتؤسس على تراث آخر مطموس ومعتم عليه هو تراث الغلاة ومن حكمهم«.
وفي تقدير جهاد فإن التراث الذي يقصده أدونيس هو كل ما قاله الشعوبيون والخوارج والمرتدون الخ..
ويربط جهاد فاضل، منطقياً، بين الدعوات التي تحملها مجلات »أمازيغ« في مدينة اغادير عاصمة منطقة سوس في غرب المغرب باللهجة المغربية، ولكن بالحرف الفينيقي الذي طوّره سعيد عقل، ومجلة »لبنان« التي يصدرها عقل في لبنان (ولو بغير انتظام)، ومجلة »مواقف« التي يصدرها أدونيس، والتي »تصدر حالياً عن هيئة ثقافية أجنبية لها اسم عربي، ومع أن المجلة شاطرة في تبديل أثوابها وتغيير مخططها بين الحين والآخر«.
كتاب جهاد فاضل يطرح قضايا جدية، ويصلح لإثارة نقاش عميق حول مرحلة مهمة تبدو وكأنها مرشحة للأفول أو للتحول في غير الاتجاه الذي اندفعت إليه بداية.
والنقاش يبحث عن بداياته الصحيحة كما عن سياقه العقلاني المستنير.
اللبنانيون يكتشفون “رمضان”!
اكتشف اللبنانيون »رمضان«!
فجأة انتبهوا إلى أن لشهر الصوم والعبادة تقاليد »مدنية« واجتماعية تتعدى نطاق البيوت واللقاءات العائلية والإقبال على الإحسان والزكاة وفعل الخير وإغاثة الملهوف وإعانة المعوز والأخذ بيد المسكين والامتناع عن قهر اليتيم!
فجأة اكتشفوا أن رمضان يسمح بوجبتين، وليس بواحدة فقط، فهناك السحور إضافة الى الإفطار، وكما أن الافطار مناسبة اجتماعية فالسحور كذلك بل ان له جوه الظريف والمميز،
يمكن أن يكون السحور »مموسقاً«، فالطرب يزيد من إقبال الناس على التبرع والعطاء، خصوصا لمن يطلب الوجاهة وتثبيت الزعامة بأموال الآخرين.
وإذا كان الزعماء يستهلكون النهارات فإن على زوجاتهم اللواتي يكشفن عن عبقريات كامنة أن يفيدوا من الليل بحيث لا تبقى للمواطن فسحة للتنفس..
ثم ان السحور يسمح، إذا ما استكملت عدته، بتحويل رمضان الى شهر من الأفراح والليالي الملاح: خيمة واسعة الجنبات، وحكواتية، وشيشة ومرطبات وجوائز وأركان للشخصيات الشعبية والمآكل الشعبية من »الكشري« والفول المدمس الى المناقيش على الصاج والحلويات… وكل ذلك في إطار الأمكنة ذات الرنين التاريخي المستوردة أسماؤها من بعض الأحياء الشعبية في القاهرة.
كل ذلك طيب لو أنه يتعدى نطاق التقليد في الشكل،
فمن حق الناس أن يسهروا وأن يستمتعوا بأوقاتهم،
لكن مرض »المظهرية« المستشري في لبنان يكاد يفسد كل شيء، بما في ذلك المتع الصغيرة.
لا يحتاج »الكشري« الى هاتف خليوي، ولا تنسجم »أم علي« كثيرا مع »الشيروكي«، ولا تفرض ذكرى عزيزة كتدخين الشيشة في خيمة إلى كاميرا فيديو لتسجيل المناسبة الخالدة.
والأهم: ألا يترك لنا زعماؤنا سهرة رمضانية بغير إفساد؟!
ورمضان كريم جداً في بيروت لا سيما على الذين لم يصوموا أبداً!